للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ترك الله لعمل ابن آدم إذا أشرك فيه معه غيره]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، رواه مسلم].

أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين: قسم يقوله صلى الله عليه وسلم آمراً به وناهياً، حسب تكليف الله له جل وعلا، ويقول ذلك عن وحي أيضاً.

وقسم يضيفه إلى ربه جل وعلا يقول: قال الله تعالى يقول الله تعالى وهذا القسم يسمى قدسياً، فالقدسي نسبه إلى الطهارة والنزاهة والرفعة يعني: أنه قول الله.

والحديث القدسي لفظه ومعناه من الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يبلغه، ولكنه ليس كالقرآن من ناحية التحدي به، والتعبد بتلاوته، وصحة الصلاة به، وما أشبه ذلك من الأمور التي يتميز بها القرآن عن الحديث القدسي.

أما القسم الأول: فالعبارة من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن المعنى من الله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤] يعني: كل ما يتكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وحي من الله.

فعلى هذا؛ يكون هذا الحديث من القسم الثاني، يقول الله جل وعلا: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، وغناه جل وعلا أمر ظاهر، وكذلك كرمه وجوده يقتضي أنه لا يقبل العمل إذا كان فيه شرك؛ لأنه يتركه لغناه وكرمه، ولكونه جل وعلا لا يقبل إلا الطيب الطاهر الخالص.

قوله: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك)، يعني: لا يمكن أن يكون الشريك مقارباً لله جل وعلا في الغنى، ومعروف من الأمور البديهية في أمر الدين الإسلامي أن الله غني بذاته عن كل ما سواه، وليس عمل الإنسان وإخلاصه ينفع الله جل وعلا وتعالى وتقدس، بل عمله لنفسه فقط: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} [فصلت:٤٦] فالله غني عن عمله، ولكنه كلف عبده أن يعمل أعمالاً صالحة خالصة، كلفه بهذا حتى يتميز من يكون عبداً لله جل وعلا ومن يكون عبداً لغير الله، وكل من لم يعبد ربه لابد أن يعبد الشيطان بمظاهره المختلفة، فإن الشيطان يظهر بمظاهر كثيرة، فقد يكون في مظهر حب النفس، ومظهر الشهوة، وقد يكون في مظهر أمور يحبها الإنسان وتغلب عليه كلعبة معينة يترك بسببها أمر الله ونهيه ولا يبالي بذلك، فكل من لم يعبد الله لابد أن يعبد غيره، حتى الملاحدة الذين يقولون: الحياة مادة، ولا يوجد جنة ولا نار ولا بعث، ولا يوجد إلا هذه الحياة فقط، فهم في الواقع يعبدون شهواتهم، ويعبدون رؤساءهم وساداتهم وكبراءهم.

فهم لما لم يعبدوا الله جعلهم الله جل وعلا يعبدون نظراءهم، أو من هو أخس منهم وأحقر؛ جزاءً وفاقاً، فكل إنسان لابد أن يعبد ربه، فإن لم يعبد ربه فإنه سيعبد شيئاً آخر من مظاهر الكون والمخلوقات، وفي النهاية تكون العبادة للشيطان؛ لأنه هو الذي يأمر بعبادة غير الله، ويزين الشرك والكفر والإلحاد والفسوق والعصيان في أعين الناس.

يقول جل وعلا: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك)، ولا شك أن غناه تام وكامل، فهو غني بذاته عن كل ما سواه، فصار من مقتضى غناه أنه إذا وقع عمل وصار هذا العمل مشتركاً بين الله وبين غيره؛ أن يترك هذا العمل لهذا الشريك، لهذا قال: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) قوله: (تركته) الضمير يعود على العمل، أي: تركت العمل فيكون حابطاً باطلاً، ويجوز أن يعود على صاحبه، أي: تركت صاحبه وشركه، يعني: أن الشريك هو الذي يتولى جزاءه ويتولى ثوابه، فإذا كان يوم القيامة يقول الله جل وعلا: انظر إلى من أشركته في عملك فاطلب جزاءك عنده، والنتيجة خسارة وعذاب في جهنم.