للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير آية هود: (من كان يريد الحياة الدنيا)]

ثم إن معنى قوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: ينويها ويقصدها بعمله {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أي: نجزيهم جزاء أعمالهم في هذه الدنيا إما بصحة أبدان أو وفرة مال وكثرته أو ما أشبه ذلك من مقاصدهم التي يريدها الله؛ لأنه ليس كل من صنع هذا يلقى جزاءه تماماً، قد يكون خسران فلا تتحصل له الدنيا ولا الآخرة؛ وتكون هذه الآية مقيدة بقوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:١٨]، فقيد المعجل بالشيء الذي يشاؤه جل وعلا ولمن يريده من هؤلاء وليس كل واحد ولا هو كل شيء، ولهذا يقول المفسرون: إن هذه الآية مقيدة بآية سورة الإسراء فيكون التعجيل لما يشاء الرب جل وعلا من الجزاء، ويكون لمن يريده ممن يعمل هذه الأعمال فليس كل واحد وليس كل عمل يكون مجزياً به في الدنيا.

وبعض المفسرين يقول: إنها منسوخة بآية الإسراء ومقصوده بالنسخ التقييد؛ لأن النسخ في لسان السلف لم يكن معناه أن يزال الحكم بحكم متأخر عنه كما هو اصطلاح المتأخرين، بل يطلقون النسخ على التقييد وعلى البيان كما قالوا في قول الله جل وعلا: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة:١٨٧]، نزلت هكذا ثم نسخت بقوله: {مِنْ الْفَجْرِ} [البقرة:١٨٧]، وهذا إيضاح وليس نسخاً، ولكنهم يجعلونه نوعاً من النسخ، أي: أن تقييد المطلق وتفسير المبهم وما أشبه ذلك يدخل في النسخ عند السلف.

ثم بعد ذلك يتوعدهم جل وعلا في الآخرة: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ) أي: جزاء أعمالهم (فيها)، أي: في الدنيا: (وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ)، أي: لا يظلمون شيئاً من عملهم فالله يجزيهم إياه في هذه الحياة، إما بصحة أبدانهم أو بإعطائهم مالاً أو بإعطائهم أولاداً أو بإعطائهم مناصب أو ما أشبه ذلك، فيكون هذا جزاء أعمالهم، وقد يعطيهم فوق أعمالهم ثم يعاقبهم الله جل وعلا يوم القيامة، مع أن كل نعمة في الإنسان من الإيجاد والحياة والسمع والبصر والأيدي والأرجل والأكل والشرب وغير ذلك، كلها من الله جل وعلا، فالإنسان لا يستطيع شيئاً بدون تسخير الله جل وعلا وإقباله عليه، ولهذا يحاسب الإنسان على ذلك يوم القيامة كما قال جل وعلا: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:٣٦].

فيسأل الإنسان عن سمعه وعن بصره وعن نياته وأعماله ومراداته وعزائمه وفؤاده وهو القلب، وفي الحديث الذي عند الترمذي وصححه وكذلك صححه الحاكم في المستدرك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه هل عمل به).

فالساعات التي يعيشها قد يضيعها وقد يحفظها، فيسأل عنها: هل استعملها في طاعة الله جل وعلا، أو استعملها في المعاصي، أو أنها ضاعت عليه سدى، وإضاعة الوقت معصية يسأل عنها الإنسان.

وكذلك قوته التي أعطاها الله جل وعلا إياه في شبابه يجب أن تستغل فيما ينفع، ولا يجوز أن تضيع، لهذا فإنه يسأل عنها يوم القيامة.

وكذلك المال يسأل عنه: من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ وكذلك هل عمل بما علم؟ هذه المسائل الأربع كل واحدة يسأل عنها يوم القيامة، والسؤالات تختلف يوم القيامة ففي موقف يسأل عن هذه، وفي موقف يسأل فيقال: ماذا أجبتم المرسلين؟ وماذا كنتم تعبدون من دون الله؟ ولابد للسؤال من جواب، فإذا كان الإنسان حافظاً نعم الله عليه، وإلا فسوف يعاقب يوم القيامة؛ لأن الله جل وعلا أمره أن يستعملها في الطاعة.