للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طلب الدنيا بالقربات شرك موجب لجهنم]

قال الشارح: [أو يجاهد للمغنم، أو لغير ذلك من الأمور التي ذكرها شيخنا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره من المفسرين في معنى قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:١٥]].

المقصود بقوله: (شيخنا) جده محمد بن عبد الوهاب؛ لأن صاحب الكتاب عبد الرحمن بن حسن، تلميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فهو حفيد الشيخ ابن ابنه، وهو يقول (شيخنا) لأنه أدرك شيئاً من أيامه، ولو قال: والدنا وإمامنا لكان أفضل، ولكن هكذا عادة العلماء، ثم إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله سئل عن معنى هذه الآية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [هود:١٥]؟ فأجاب جواباً خاصاً وذكر تحته أربعة أقسام، مما ذكر الصحابة والمفسرون أنه يدخل في هذه الآية وقد أطال الجواب، وسيذكره الشارح ملخصاً عن جواب الشيخ.

قال الشارح: [وأراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة وما بعدها، أن العمل لأجل الدنيا شرك ينافي كمال التوحيد الواجب، ويحبط الأعمال، وهو أعظم من الرياء؛ لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه، والمؤمن يكون حذراً من هذا وهذا.

قال المصنف: (وقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:١٥ - ١٦]).

ذكر في معنى هذه الآية حديث أبي هريرة المشهور وهو حديث صحيح، عن شفي بن ماتع قال: (قدمت المدينة فإذا الناس مجتمعون على رجل، وسألت من هذا؟ فقيل لي: هذا أبو هريرة، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، حتى إذا ذهب الناس وانصرفوا، أقسمت عليه بحقي -يعني: حق المسلم على المسلم- أن يحدثني حديثاً سمعه عن رسول صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم سوف أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، ليس فيه غيري وغيره، ثم نشج نشجة ثم مال وكاد يغمى عليه، ثم قال: لأحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ليس فيه غير وغيره، ثم نشج نشجة ثم مال وغشي عليه طويلاً، ثم لما أفاق قال: سأحدثك، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى يوم القيامة بثلاثة، مجاهد ومتعلم ومتصدق، فيقال للمتصدق: ماذا عملت؟ بعد ما يقرر بنعم الله عليه فيقر بها فيقول: بذلت المال في كل وجه تحبه، فيقول الله: كذبت.

وتقول الملائكة: كذبت، ولكنك بذلته ليقال هو جواد وقد قيل، ثم يأمر به إلى النار.

ثم يؤتى بالمتعلم أو قال: بالقارئ فيقرر بنعم الله جل وعلا فيقر بها، فيقول الله جل وعلا: ماذا عملت؟ فيقول: تعلمت فيك العلم وعلمته، فيقول الله جل وعلا: كذبت.

وتقول الملائكة: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال هو عالم وقد قيل، يعني أنك قد لقيت جزاءك من قول الناس هذا الذي قصدت، ثم يؤمر به إلى النار.

ثم يؤتى بالمجاهد الذي قتل في سبيل الله في الظاهر، فيقرر بنعم الله فيقر بها فيقول الله: ماذا عملت؟ فيقول: يا رب! بذلت نفسي حتى قتلت في سبيلك، فيقول الله: كذبت.

وتقول الملائكة: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال هو شجاع، هو جريء، وقد قيل، ثم يؤمر به إلى النار.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: هؤلاء الثلاثة هم أول من تسعر بهم النار، فيقول شفي: قدمت الشام، فدخلت على معاوية وحدثته بهذا الحديث فبكى بكاءً شديد حتى أشفقوا عليه وقال من عنده: لقد جاءنا هذا الرجل بشر، ثم بعد ذلك مسح دموعه وقال صدق الله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:١٥]، وأكمل الآيتين).

يعني الشارح أن هذا الحديث مطابق للآيتين؛ لأن هؤلاء الثلاثة ليسوا ثلاثة نفر فقط، ولكن المقصود ثلاثة أصناف من الناس، فكل من كان هذا صنيعه وهذا عمله فهذا مصيره وتلك نهايته، وهي مصيبة كبرى، فهو في الظاهر يعمل أعمالاً صالحة من أفضل الأعمال، لأنها إما صدقة وإما علم وتعليم، وإما جهاد في سبيل الله، ثم كانت النتيجة أنهم أول من توقد بهم النار، نسأل الله السلامة! في الظاهر أنه يعمل أعمالاً صالحة من أفضل الأعمال: فإنها إما صدقة، أو علم تعلمه وعلمه، وإما جهاد في سبيل الله, ثم بعد تلك النتيجة أنه تسعر به النار قبل عباد الأوثان والمشركين, نسأل الله العافية, لماذا؟ لأن هؤلاء مشركون في الواقع, وهم يريدون أعراضاً لا طائل تحتها, يريدون مدح الناس وثناءهم، ففي الواقع هم يعبدون أهواءهم وشهواتهم.

فهذه يخشى منها كثيراً, وهي أن يعمل الإنسان العمل وهو يريد النفع الخاص, بأن يكون مقدماً في الناس، محبوباً لديهم، مثنىً عليه، وهذه مكانة تكون هي جزاء عمله، سواء يثني عليه بأنه شجاع ومقدام أو أنه يفعل ويفعل أو أثني عليه بأنه جواد متصدق، يحب الخير ويرغب فيه, أو أثني عليه بأنه عالم، وأنه يستطيع أن يرد على فلان ويعمل ويعمل وما أشبه ذلك، فهذا الشيء الذي ناله وتحصل عليه هو جزاؤه، وأعماله في الآخرة حابطة وفاسدة, ويكون من أهل جهنم نسأل الله العافية! وفي الحديث الآخر الصحيح: (أنه يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في جهنم فتندلق أقتابه -أي: تخرج أمعاؤه- فيدور حولها في جهنم كما يدور الحمار بالرحى، ويصيح حتى يتأذى به أهل النار, فيجتمعون عليه ويقولون: يا فلان مالك؟! ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه) يعني: هذا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أمام الناس، ولكنه إذا غاب واختفى فعل المنكر وترك المعروف، وإنما: يرائي الناس فقط والعياذ بالله.

والأحاديث واضحة في أن الله جل وعلا خلق عباده ليعبدوه وحده، وتكون أعمالهم مقصوداً بها وجه الله والخلاص من اليوم العسير الذي ينتظرنا، بل هو أمامنا ونحن سائرون إليه، بلا شك أن كل يوم يقربنا إلى هذا اليوم، وإن كان الإنسان قد لا يهتم بهذا كثيراً بسبب الغفلة وطول الأمل وحب الدنيا، ولكنه في الواقع إذا رجع إلى نفسه وعقله علم أنه لابد من ذلك اليوم، فيجب أن يكون مقصود الإنسان أنه عبد لله جل وعلا، يعمل الأعمال حسب أمر الله ومرضاته، وأنه سائر إلى ربه يرجو أن يثيبه ربه جل وعلا، ويعفو ويتجاوز عن الخطأ، وما فعله مخالفاً لأمر الله، فيثيبه بالعمل القليل الجزاء الكثير، هذا شأن المؤمن أنه يكون بهذه الصفة، أما إذا قصر همته ومقصده على الدنيا، فالدنيا ستنتهي ثم تكون العاقبة الوخيمة السيئة، نسأل الله العافية.