للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أثر وهب بن منبه في وصف بعض نعيم الجنة]

قال الشارح رحمه الله: [وقد روى ابن جرير، عن وهب بن منبه هاهنا أثراً غريباً عجيباً.

قال وهب رحمه الله: إن في الجنة شجرةً يقال لها طوبى، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها: زهرها رياط، وورقها برود، وقضبانها عنبر، وبطحاؤها ياقوت، وترابها كافور، ووحلها مسك، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة، فبينما هم في مجلسهم إذ أتتهم الملائكة من ربهم يقودون نجباً مزمومة بسلاسل من ذهب، وجوهها كالمصابيح من حسنها، ووبرها كخز المزعري من لينه، عليها رحال ألواحها من ياقوت ورفوفها من ذهب، وثيابها من سندس وإستبرق، فينيخونها ويقولون: إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه، قال: فيركبونها، قال: فهي أسرع من الطائر، وأوطأ من الفراش، نجباً من غير مهنة، يسير الراكب إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه، لا تصيب أذن راحلة منها أذن صاحبتها، ولا ترك راحلة ترك صاحبتها، حتى إن الشجرة لتنتحي عن طريقهم؛ لئلا تفرق بين الرجل وأخيه.

قال: فيأتون إلى الرحمن الرحيم، فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه، فإذا رأوه قالوا: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وحق لك الجلال والإكرام، قال: فيقول تبارك وتعالى عند ذلك: أنا السلام، ومني السلام، وعليكم حقت رحمتي ومحبتي، مرحباً بعبادي الذين خشوني بالغيب، وأطاعوا أمري، قال: فيقولون: ربنا إنا لم نعبدك حق عبادتك، ولم نقدرك حق قدرك، فأذن لنا بالسجود قدامك، قال: فيقول الله: إنها ليست بدار نصب ولا عبادة، ولكنها دار ملك ونعيم، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة، فسلوني ما شئتم، فإن لكل رجل منكم أمنيته، فيسألونه حتى إن أقصرهم أمنية ليقول: ربي تنافس أهل الدنيا في ديناهم فتضايقوا، رب فآتني من كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا، فيقول الله تعالى: لقد قصرت بك اليوم أمنيتك، ولقد سألت دون منزلتك، هذا لك مني وسأتحفك بمنزلتي؛ لأنه ليس في عطائي نكد ولا قصر يد.

قال: ثم يقول: اعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم، ولم يخطر لهم على بال، قال: فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم التي في أنفسهم، فيكون فيما يعرض عليهم: براذين مقرنة على أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة، على كل سرير منها قبة من ذهب مفرغة، في كل قبة منها فرش من فرش الجنة مظاهرة، في كل قبة منها جاريتان من الحور العين، على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة، وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما، ولا ريح طيب إلا قد عبق بهما، ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة، حتى يظن من يراهما أنهما دون القبة، يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض في ياقوتة حمراء، يريان له من الفضل على صحابته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل، ويرى لهما مثل ذلك، ثم يدخل إليهما فيحييانه ويقبلانه ويعانقانه، ويقولان له: والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك، ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفاً في الجنة، حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له.

وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه وزاد: فانظروا إلى مواهب ربكم الذي وهب لكم، فإذا بقباب في الرفيق الأعلى، وغرف مبنية من الدر والمرجان، وأبوابها من ذهب، وسررها من ياقوت، وفرشها من سندس وإستبرق، ومنابرها من نور، يفور من أبوابها وعراصها نور مثل شعاع الشمس، عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء.

وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهوها نورها، فلولا أنه مسخر إذاً لالتمع الأبصار، فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض فهو مفروش بالحرير الأبيض، وما كان منها من الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر، وما كان منها من الياقوت الأصفر فهو مفروش بالأرجوان الأصفر، مزودة بالزمرد الأخضر، والذهب الأحمر، والفضة البيضاء، قوائمها وأركانها من الجوهر، وشرفها قباب من لؤلؤ، وبروجها غرف من المرجان.

فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم قربت لهم براذين من ياقوت أبيض، منفوخ فيها الروح، تحتها الولدان المخلدون، بيد كل وليد منهم حكمة برذون من تلك البراذين، ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت، سروجها موضونة مفروشة بالسندس والإستبرق.

فانطلقت بهم تلك البراذين تزف بهم، ينظرون رياض الجنة، فلما انتهوا إلى منازلهم وجدوا الملائكة قعوداً على منابر من نور، ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم، ويهنئوهم كرامة ربهم، فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم، وما سألوا وتمنوا، وإذا على كل باب قصر من تلك القصور أربعة جنان: جنتان ذواتا أفنان، وجنتان مدهامتان، وفيهما عينان نضاختان، وفيهما من كل فاكهة زوجان، وحور مقصورات في الخيام.

لما تبوءوا منازلهم، واستقروا قرارهم، قال لهم ربهم: فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ قالوا: نعم وربنا، قال: هل رضيتم ثواب ربكم؟ قالوا: ربنا رضينا فارض عنا، قال: فبرضاي عنكم أحللتكم داري، ونظرتم إلى وجهي، فعند ذلك قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:٣٤ - ٣٥]، وهذا سياق غريب، وأثر عجيب، ولبعضه شواهد في الصحيحين].

هذا الأثر من كلام وهب بن منبه، وقصارى الأمر أن يكون منقولاً عن بني إسرائيل، فلا يجوز إثباته واعتقاد ما فيه، وفيه أشياء منكرة، وهو كما وصفه بأنه أثر عجيب غريب، فالعجيب والغريب ينبغي أن لا يثبت، ولكن أورده لما فيه من الترغيب في الجنة، وفيه أشياء تحرك القلوب للعمل، ولكن خير من ذلك وأفضل ما في كتاب الله جل وعلا.

ولا شك أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، وأعظم مما ذكر هنا بكثير، والله جل وعلا يقول: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:١٧]، (فلا تعلم نفس) هذه نكرة تشمل الملائكة وغيرهم، فهي لا تعلم الشيء الذي أخفي لهم.

ثم إن هناك شيئاً فيه نكارة، والحديث الذي في الصحيحين يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله جل وعلا الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة، ووسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفه عرش الرحمن)، فعرش الرحمن فوق ما يذهبون إليه أي: أنهم يسيرون، وتتفرق الشجر عنهم، فيزورون الله جل وعلا، الله أكبر من كل شيء وأعظم، فإذا أراد جل وعلا النظر إليهم أزاح الحجاب فنظر إليهم في أماكنهم، وكلموه وكلمهم تعالى وتقدس، ولا يحتاج أنهم يركبون ويذهبون يمشون بين الشجر كما يذكر هنا؛ لأنه يقول: (وسقفه عرش الرحمن) ولكن في الجنة الفردوس وهو أعلى ما في السماء، وليس فوقه إلا عرش الرحمن تعالى وتقدس.

كذلك ما يذكر من وجود براذين من كذا وكذا هذا ليس بعجيب على قدرة الله جل وعلا، ولكن يحتاج إلى أن يثبت ذلك عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، أو عن قول الله جل وعلا، أما إذا كان منقولاً عن كتب بني إسرائيل فبيننا وبينهم مفاوز تنقطع دونها أعناق الإبل، فلا يجوز أن نثبت ذلك إلا بشيء ثبت من كتاب الله أو من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان ذلك في الفضائل والترغيب متسامحاً فيه، لكن نكتفي بما صح وثبت في كتاب الله جل وعلا، وفي هذا غنية وخير كثير.

وكم من النقص دخل على المسلمين بسبب ما يذكره كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما من أحبار اليهود الذين أسلموا وصاروا يذكرون هذه الأشياء في أمور كثيرة، بعضها قد يخالف ما في كتاب الله، ولهذا في صحيح البخاري عن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه أنه قال: (لا تسألوا أهل الكتاب، فإن كتابكم هو أحدث كتاب نزل، فو الله ما رأينا واحداً منهم أتى يسأل، وإن من أصدق هؤلاء كعب الأحبار، وإننا لنبلو عليه الكذب).

هكذا يقول: يعني: أنه قد يظهر من بعض ما يخبر شيء فيه مخالفة لما في كتاب الله ولما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والمقصود: أن هذا لا يعتمد عليه في مثل هذا الأثر الطويل الذي فيه هذه الأمور التي ذكر؛ لأنه ليس له مستند ثابت صحيح، لا من كتاب الله، ولا من قول رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما قاله وهب رحمه الله وعفا الله عنا وعنه، نقلاً عن الكتب السابقة، والله أعلم به، ومعلوم أن الذي ينقل عن بني إسرائيل على أقسام ثلاثة: قسم يكون موافقاً لما جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم، فهذا حق يجب تصديقه والإيمان به.

وقسم بعكس ذلك، يكون مخالفاً له، فهذا يجب تكذيبه.

وقسم ثالث ليس عندنا شيء يدل على أنه صحيح ولا أنه باطل، فمثل هذا لا يصدق ولا يكذب، بل يوقف فيه ويقال: الله أعلم، ونقول: آمنا بما أنزل الله في كتابه.