للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجوب تقديم الأدلة على الآراء والاجتهادات]

فبدأ أولاً بقول ابن عباس، وهذا ثابت عن ابن عباس في الصحيحين وغيرهما، أنه قال: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء)، ومعنى (يوشك) يقرب ويسرع، يعني: أنكم تستحقون أن ترموا بحجارة من السماء، وهذا يقوله عن محض الإيمان الذي في قلبه وتعظيماً لله جل وعلا وتقديراً له، حيث أمر الناس باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يعتل بقول فلان وفلان ويترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والسبب في هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالتمتع في الحج، يعني: أن الذي أحرم بالحج مفرداً أو أحرم بالعمرة والحج معاً لما وصل إلى مكة قال لهم: (طوفوا بالبيت واسعوا بين الصفا والمروة ثم حلوا)، وكان هذا الأمر مستعظماً في الجاهلية، ويرون أن الإتيان بالعمرة في أيام الحج من أفجر الفجور! فأراد صلى الله عليه وسلم أن يبطل هذا الاعتقاد وهذه العادة السيئة بأمره الذي أمرهم به، وأكد ذلك عليهم تأكيداً مكرراً ومبالغاً فيه، حتى إنهم راجعوه وقالوا له: ما بقي بيننا وبين يوم عرفة إلا أربعة أيام أو ثلاثة أيام، فقال: (أقول لكم فافعلوا ما أقول لكم)، فامتثلوا ذلك.

وقد فهم كبار الصحابة من هذا أن مقصوده صلى الله عليه وسلم الرفق بأمته وأن يأتوا بالنسكين في سفرة واحدة وفي عام واحد، ورأوا أن الفضل أن يكرر الإنسان الإتيان للبيت، وقد صرح بذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حيث قالا: نكره أن يخلو البيت من طائف فيه وقاصد له، فكانا يأمران أو يفعلان الإفراد في الحج، فحدث في ذلك إشكال على بعض الناس، فلما سئل ابن عباس أخبرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له السائل: أبو بكر وعمر ينهيان عن المتعة، فقال هذا القول: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون لي: قال أبو بكر وعمر!) يعني: أنكم تعارضون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر وعمر، فبذلك تستحقون الرجم من السماء، مع أن قول أبي بكر وعمر خرج عن اجتهاد ودين وقصدا به عبادة الله، وليس فيه مصلحة لهما، فكيف بالذي إذا قيل له: قال الله وقال رسوله، قال: ولكن فلاناً يقول: كذا وكذا! ولكن مذهب فلان كذا وكذا ولكن رأي فلان كذا وكذا يخشى على هذا أن يكون قد نزع منه الإيمان نهائياً يخشى أن يكون خرج من الدين الإسلامي؛ لأنه جعل فلاناً بمنزلة الرسول صلى الله عليه وسلم أو حاكماً على قول الرسول صلى الله عليه وسلم.

وبهذا يتبين أن التقليد في الأمر الواضح لا يجوز، أما الإنسان الجاهل فعليه أن يقلد العلماء الموثوق بعلمهم وتقواهم، فإن هذا هو الذي يستطيعه، والله جل وعلا يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣]، فهذه وظيفتهم، فإذا لم يعلم سأل أهل الذكر وأخذ بقولهم، هذا هو الواجب عليه بنص كلام الله جل وعلا، ولكن يجب أن يكون المسئول من أهل الذكر وأهل الذكر: هم الذين يعلمون ويعملون بعلمهم ويتقون الله جل وعلا، وليس أهل الذكر الذين يجانبون الحق وإن كان عندهم علم.