للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تعريف الطاغوت]

قال الإمام مالك: الطاغوت: كل ما عبد من دون الله، وعرفه ابن القيم تعريفاً جامعاً فقال: الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو مطاع أو متبوع.

وقوله: (كل ما تجاوز به العبد حده) سبق أن شرحناه وبينا معناه، وحد المخلوق: أن يكون عبداً لله، فإذا تجاوز حد العبودية لله جل وعلا والخضوع له والذل بأن جعل له نصيباً منها، أو تجاوز حد الطاعة التي هي طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يطاع في معصية الله أو في تحليل الحرام أو تحريم الحلال أو ما أشبه ذلك فإنه يكون طاغوتاً أو يكون متبوعاً على الهوى وبدون حق، ولهذا لما ذكر ابن القيم هذا التعريف قال: وهذه طواغيت العالم إذا نظرت إليها وجدت الأرض مملوءة من هذه الطواغيت، ولا يخلو الإنسان الذي يترك شرع الله وعبادة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يكون عابداً لهذا الطاغوت.

والمقصود هنا بيان معنى شهادة أن محمداً رسول الله على ما أراده المؤلف، وأورد هذه الآية من أجل ذلك، وذلك أن العباد كلفوا بعبادة الله وبطاعته واتباع أمره بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أن يعبدوا الله أو يفعلوا فعلاً يتعبدون به أو يتركون شيئاً يتعبدون به إلا إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء به وبينه لهم، ومن ذلك التحاكم وفض النزاع والخصومات، وكذلك الخلاف الذي يقع بين الناس يجب أن يرجع فيه إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يفعل الإنسان ذلك فمعنى هذا أنه ما جاء بشهادة أن محمداً رسول الله على الوجه الأكمل والمطلوب الذي ينجو به؛ لأن العبادة وكذلك الطاعة وكذلك الحلال والحرام لا يجوز أن يؤخذ من قول فلان ولا من فعل فلان، وإنما يجب أن يؤخذ مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومعنى هذا أن الإنسان لا اختيار له فيما يفعله تعبداً، وإنما الأمر إلى الله، وأمر الله الذي كلف به الإنسان ما يتبين للإنسان إلا بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب:٣٦] يعني: ما لهم الاختيار ولا يجوز أن يكون لهم اختيار في ذلك، بل يجب عليهم أن ينفذوا ويمتثلوا وإلا لم يكونوا مؤمنين.

فعلى هذا يكون معنى (شهادة أن محمداً رسول الله) أنه رسول جاء بالرسالة من الله وفيها العبادة وفيها الأمر والنهي وفيها التكليف، وأنه لا يقدم الإنسان على عبادة أو أمر يصبح فيه ثقل بينه وبين من خالفه أو يكون فيه حكم بينه وبين من خالفه إلا إذا اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك وصار الحاكم هو قوله أو قول ربه الذي جاء به، فهذا هو معناها الحقيقي، وهو الذي أراده المؤلف عند استدلاله بهذه الآية.

ومعنى ذلك أنه يجب التحاكم إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والتحاكم أمر عام، سواءً أكان في فض النزاعات التي فيها حقوق، أم إنهاء الخلاف في مسائل العلم أم غيرها مما يحدث فيه خلاف بين الناس -ولابد من الخلاف-، فلابد أن يكون مردوداً إلى ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يكون هو الحاكم، فيرضى المحكوم عليه بهذا ويسلم وينقاد، وإلا فلا يكون مسلماً إن لم يفعل هذا، ولهذا ختم هذه الآيات بقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:٦٥]، فبين في هذه الآيات أن الذي لا ينقاد إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إما أنه عابد للطاغوت أو يكون منافقاً يظهر الموافقة ويبطن الكفر ويريد أن يوفق بين الحق وبين الباطل على حد زعمه، وهذا مستحيل لا يمكن، ولكن هكذا يزعمون أنهم يوفقون بين هذا وهذا برأيهم وبعقولهم، وهو ظن بعيد جداً عن الصواب، بل مصدره من الشيطان الذي دعاهم إلى ذلك، ولهذا أخبر جل وعلا أن الشيطان يريد أن يضلنا ضلالاً بعيداً، وهو حريص على اضلالهم وقد أطاعوه في هذا.