للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

معنى شهادة أن محمداً رسول الله

فالخلاصة أن معنى شهادة أن محمداً رسول الله -بعد العلم اليقيني بأنه بشر أوحي إليه شرع-: طاعته في أمره، وتحيكمه فيه، والانتهاء عما نهى عنه، وأنه جاء بشرع من عند الله، وليس هو رباً يتصرف في الكون، ولا معبوداً يعبد مع الله، وإنما يعبد الله جل وعلا بما جاء به من عند الله جل وعلا، ويكون الذي جاء به مهيمناً على حياة الإنسان كلها في الطاعة والحكم وفض النزاع وغير ذلك، وإلا فلا يكون الإنسان جاء بالشهادة كما ينبغي.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال العماد ابن كثير رحمه الله: والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هاهنا.

وتقدم ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في حده للطاغوت، وأنه: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فكل من حاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد حاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكفروا به؛ فإن التحاكم ليس إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن كان يحكم بها].

هذا الحد قد يحتاج إلى تبيين.

وقد سبق أن بيناه في موضعه، ولكن قوله: (الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده) العبد هنا فاعل التجاوز، فهو كل ما تجاوز به العبد حده، والضمير في قوله: (حده) مفعول عائد على الطاغوت الذي حدث به التجاوز.

ومعنى ذلك أن الذي اتُبِع أو عُبِد لا يخلو إما أن يكون إنساناً عاقلاً، فإن كان إنساناً عاقلاً فهو مكلف بأن يكون عبداً لله جل وعلا، ولا يجوز أن يخرج عن حد العبودية، فإن خرج عن حد العبودية بأن دعا إلى عبادة نفسه، أو رضي أن يكون مشاركاً لله جل وعلا في شيء من العبادة صار طاغوتاً.

والطاغوت: مأخوذ من الطغيان الذي هو التجاوز، فهو طغى على حد العبودية، وخرج منها إلى الربوبية أو الإلهية، أما إذا كان غير عاقل مثل الشجر أو الحجر فالشجر والحجر خلق للانتفاع والعبرة، وليس له تصرف.

أي: أن العاقل ينتفع به، ويعتبر في خلقه فقط، وليس عنده نفع ولا ضر يمكن أن يوجده، فإن قصد منه شيء مما هو خارج عما خلق له فإنه قد جعل طاغوتاً، أي: خُرِجَ به عن حده وتجاوز به الذي أخرجه حده الذي حد له، وهو أن يكون مخلوقاً ينتفع به في بناء أو في سدود، أو ما أشبه ذلك إذا كان حجراً، وأما إذا كان شجراً فيكون متاعاً للبهائم، أو وقوداً للنار، وما أشبه ذلك من الانتفاع الذي ينتفع به الإنسان.

فإن طلب منه بركة، أو نفعاً غيبياً، أو مستقبلياً، أو جعل له شيئاً من التصرف فقد تجاوز به الحد وجعله طاغوتاً كطواغيت الكفار من الأحجار والأشجار.

وإذا كان قبراً فالقبر وضعه مثل وضع الحجارة والأشجار؛ لأن المقبور أصبح رفاتاً وتراباً لا يستطيع أن ينفع نفسه، فإذا اتجه إليه بالدعاء وطلب منه النصر، أو ما أشبه ذلك فقد جعله طاغوتاً.

وكذلك إذا جعل مخلوقاً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم حكماً يتحاكم إليه في فض النزاعات ويرجع فيما اختلف فيه إليه فقد تجاوز به حده؛ لأن حده أن يكون متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا، فهذا معنى قوله: (كل ما تجاوز به العبد حده).

ثم فصّل فقال: سواء أكان هذا الذي تجوز به الحد معبوداً، أم كان متبوعاً، أم كان مطاعاً؛ لأن المطاع يجب أن تكون طاعته بأمر الله وأمر رسوله، فيطاع لأنه أمر بأمر الله وأمر رسوله، أما إذا تجاوز إلى غير ذلك فإنه يكون خارجاً عن حد العبودية، وإذا اتبع على ذلك صار المتبع له يتبع طاغوتاً.

وسواء أكان معنى أم كان شيئاً قائماً بنفسه مجسداً يلمس وينظر إليه، فلا فرق بين هذا وهذا.

قال الشارح رحمه الله: [فمن حاكم إلى غيرهما فقد تجاوز به حده، وخرج عن ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزله منزلة لا يستحقها، وكذلك من عبد شيئاً دون الله فإنما عبد الطاغوت.

فإن كان المعبود صالحاً صارت عبادة العابد له راجعة إلى الشيطان الذي أمره بها، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:٢٨ - ٣٠].

وكقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:٤٠ - ٤١]].

يعني أن المعبود الذي يعبد من دون الله قد يكون رجلاً مطيعاً صالحاً، فكيف يسمى طاغوتاً؟! فهل يطلق عليه أنه طاغوت؟ لا وإذا كان كذلك فالطاغوت هو من أمر بعبادته وهو الشيطان، وأما الرجل الصالح فلا يمكن أن يرضى بأن يعبد من دون الله أو يأمر بذلك، وقد عيد كثير من الناس الملائكة، والأنبياء والصالحين.

فإذا كان يوم القيامة جمعهم الله جل وعلا وسأل المعبودين من الملائكة ومن الأنبياء وغيرهم ويقول لهم أمام العابدين: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:٤٠]؟ فيتبرءون منهم.

فمنهم من يقول: كنا غافلين عن ذلك ما لنا علم؛ لأنهم أموات لا يعرفون ماذا يقع، والملائكة يقولون: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:٤١]، والمقصود بالجن الشياطين، فهي التي أمرتهم بعبادة غير الله.

ولهذا تكون العبادة للشيطان، وكذلك إذا كان المعبود غير عاقل فإن العبادة للشيطان؛ لأن الله جل وعلا جعل في عقل الإنسان تمييزاً بين من يتصرف ومن لا يتصرف، ولكن الشيطان هو الذي يزين بأن هذا ينفع وأن هذا يشفع وأن هذا ينفع وأن هذا يضر.

ولهذا فإن الذين يعبدون الشمس يعبدون الشيطان؛ لأنه هو الذي أمر بعبادتها، فإذا سجدوا لها ذهب ووقع مقارناً للشمس فيقع السجود له، كما في صحيح مسلم من حديث عمرو بن عبسة أنه لما سأله عن الصلاة قال: (صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع، فإنها تطلع بين قرني الشيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار).

وكذلك إذا غربت تغرب بين قرني الشيطان، فإن الشيطان يقارنها حتى يقع السجود والعبادة له.

ولهذا لما لما نزل قول الله جل وعلا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:٩٨] جاء أحد الكفار ليخاصم الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، فسأله: أليس عيسى يعبد، وأمه تعبد، والعزير يعبد، والملائكة تعبد؟ فإذاً يكون هؤلاء حصب جهنم! فأنزل الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:١٠١ - ١٠٢].

والعبادة التي وقعت ممن عبدهم تكون للشيطان.

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري في حديث الشفاعة الطويل أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا شفع الشفاعة الكبرى إلى الله جل وعلا بأن يفصل بين خلقه أن الله يشفعه في ذلك، ثم يأتي الرب جل وعلا فيخاطبهم جميعاً، ويقول لهم: إني أنصت لكم منذ خلقتكم فأسمع كلامكم وأحصي أعمالكم فأنصتوا لي الآن، فلابد من الحساب خضوعاً وذلاً، ويقول جل وعلا: أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ ما الجواب؟

الجواب

بلى فهو العدل، فيؤتى بكل معبود كان يعبد في الدنيا وينصب أمامهم، سواء أكان المعبود من الأصنام أم من غيرها.

أما إذا كان المعبود ملكاً أو نبياً أو رجلاً صالحاً فإنه يؤتى بالشيطان على مثاله، ويقال لعابده: هذا معبودك فاتبعه، فتذهب المعبودات إلى جهنم فيتبعها العابدون، فيكبكبون فيها جميعاً، ويبقى في الموقف المؤمنون فقط، ومعهم المنافقون الذين كانوا يحكم عليهم ظاهراً بأحكام الإسلام، ولكنهم في الباطن كفرة، فيقول الله جل وعلا لهم ما الذي أبقاكم وقد ذهب الناس -أي: ذهبوا إلى جهنم-؟ فيقولون: إنما فارقناهم أشد ما كنا إليهم حاجة.

أي: في الدنيا فارقناهم وتركناهم وكنا نحتاج إليهم، واليوم لا نحتاج إليهم، فليس لنا بهم حاجة؛ لأنهم لا يغنون عنا شيئاً.

والمقصود أنه يؤتى بالإنسان المعبود إذا كان المعبود رجلاً طائعاً لله جل وعلا من نبي أو ملك، أو رجل صالح، ثم يؤتى بالشيطان على مثاله وصورته التي كان يتخيلها العابد؛ لأن العابد لابد أن يتخيل شيئاً عند عبادته، فيتخيل أن هذا النبي كان كذا وكذا، وهذا النبي كذا وكذا، فيؤتى به على ذلك القوام الذي كان يتخيله، ويقال له: هذا معبودك فاتبعه.

والواقع أنه ما عبد إلا الشيطان؛ لأن الشيطان هو الذي أمره بذلك فهو يطيعه، ولهذا إذا استقروا في النار جميعاً وتكاملوا فيها يقوم الشيطان خطيباً فيهم في النار، يقول بعض المفسرين: إنه ينصب له منبر في وسط جهنم والمهم أنه يقوم فيهم خطيباً؛ لأنه رئيسهم وقائدهم وإمامهم، فيقول لهم: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:٢٢] يعني: ما كان لي حجة ولا برهان في دعوتي إياكم، إنما هي مجرد دعوة: {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:٢٢]، فيكفر باتباعهم له ويتبرأ منهم، ويقول: أنتم اليوم لا تغنون عني شيئاً.