للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكلام على حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن سول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح].

هكذا قال النووي رحمه الله: إنه حديث صحيح، وقوله (رويناه في كتاب الحجة) الحجة هو: كتاب (الحجة على تارك المحجة) لـ أبي نصر الشافعي رحمه الله، وهو كتاب متداول معروف، وموضوعه في بيان العقائد على طريقة المحدثين.

ومعنى قوله: (رويناه) أنه روى الكتاب عن مشايخه بسنده إلى المؤلف، وكل ما فيه يكون مروياً بهذه الطريقة، وهكذا الكتب التي يرويها العلماء بهذا المعنى، وهذا الحديث جعله النووي رحمه الله في كتابه (الأربعون النووية) الذي اشترط أنه لا يدخل فيه إلا حديثاً صحيحاً.

فجمع أربعين حديثاً يدور عليها دين الإسلام، ولكن الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث قال: تصحيحه بعيد جداً يعني: كون الحديث صحيحاً بعيد جداً من وجوه، ثم ذكر الوجوه التي فيها ضعفه وأن الحديث ضعيف فضعفه، ومعلوم أن العلماء تختلف أنظارهم في مثل هذا، فقد يصحح عالم من علماء الحديث، ويأتي غيره ويضعفه، وقد يكون العكس، وهذا حسب الاجتهاد.

ولكن الحديث معناه صحيح؛ لأن القرآن دل على ذلك، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦] يعني: أنه لابد أن يكون المؤمن متبعاً أمر الله جل وعلا، ولابد أن يكون الاتباع ليس عن طريق المجاملة، أو طريق الموافقة بل لابد أن يكون عن طريق الاتباع والحب والإرادة وطلب الثواب والهرب من العذاب لابد أن يكون بهذا المعنى، وإلا فلا يفيد، ويقول الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥] فأخبر الرب جل وعلا أنه لا يحصل لأحدهم الإيمان حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في الشجار الذي يحصل بينه وبين غيره.

ومن ذلك الشجار مع نفسه، كونه يكون عنده تردد أو شك أو ريب، فلابد أن يحكم كتاب الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم مجرد التحكيم لا يكفي في الإيمان بل لابد أن يسلم، والتسليم معناه: ألا تكون هناك منازعة، وألا يكون هناك طلب لحكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثم أيضاً لابد من الرضا بهذا، ولهذا قال: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا} [النساء:٦٥] يعني: ما يكون في نفسه ضيق من هذا، فيتمنى أن يكون الحكم على خلاف ما هو عليه، بل لابد أن يرضى به، وهذا معنى أن يكون هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرضا بأحكام الرسول صلى الله عليه وسلم متعين، وهذا الحديث يتفق مع مثل هذه الآية والآيات في هذا كثيرة.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي في كتاب (الحجة على تارك المحجة) بإسناد صحيح، كما قاله المصنف رحمه الله عن النووي.

ورواه الطبراني وأبو بكر بن عاصم والحافظ أبو نعيم في (الأربعين) التي شرط لها أن تكون من صحيح الأخبار، وشاهده في القرآن قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:٦٥].

وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦]، وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:٥٠] ونحو هذه الآيات].

وكذلك قوله جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:٩] فكراهة ما أنزل الله جل وعلا محبطة للعمل، ومعنى ذلك أنه لابد من الرضا به، ويرتبط به ويصبح ارتباطه به أكثر من ارتباطه بكل شيء، ولابد من هذا، والآيات في هذا كثيرة.

قال الشارح رحمه الله: [قوله: (لا يؤمن أحدكم) أي: لا يكون من أهل كمال الإيمان الواجب الذي وعد الله أهله عليه بدخول الجنة والنجاة من النار، وقد يكون في درجة أهل الإساءة والمعاصي من أهل الإسلام].

يعني أن الإيمان الذي يجب أن يكون كاملاً هو الإيمان الواجب على كل أحد، وهو الإيمان الذي يدعو الإنسان للانقياد لأمر الله، والانتهاء عن نهيه، ويكون راغباً في ذلك وراهباً، فهذا إذا كان بهذه المنزلة كان إيمانه كاملاً، فيصبح ليس عليه خوف فيما يستقبله، ولا يخاف أن يقع في العذاب.

أما إذا انتقص مما وجب عليه من الإيمان الذي يقتضي فعل المأمور، وترك المحظور المنهي عنه المحرم انتقص من ذلك شيئاً فقد انتقص من الإيمان، أو انتقص من مقتضاه، ومقتضاه أنه يفعل ما أمر به وينتهي عما نهي عنه فقد يرتكب منهياً عنه وقد يترك واجباً عليه، فيكون عاصياً بذلك، ويكون إيمانه ناقصاً؛ لأنه ترك الإيمان الواجب الكامل الذي ينجو به، ويأمن به من العذاب، ويبقى معه مطلق الإيمان الذي يجعله مسلماً ولا يخرج من دائرة الإسلام، ولكنه يكون من أهل الوعيد، أي: ممن يعرض للعذاب، سواء في الدنيا أو في الآخرة، وقد يكون عذاب الدنيا غير كاف، فيعذب في الآخرة.