للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النهي عن أحاديث القصاص التي لا فائدة منها، وبيان بعض المبالغات التي فيها]

قال الشارح رحمه الله: [علي هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب، وأحد الخلفاء الراشدين، وسبب هذا القول -والله أعلم- ما حدث في خلافته من كثرة إقبال الناس على الحديث، وكثرة القصاص وأهل الوعظ، فيأتون في قصصهم بأحاديث لا تعرف من هذا القبيل، فربما أستنكرها بعض الناس وردها، وقد يكون لبعضها أصل أو معنىً صحيح، فيقع بعض المفاسد لذلك، فأرشدهم أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى أنهم لا يحدثون عامة الناس إلا بما هو معروف ينفع الناس في أصل دينهم وأحكامه؛ من بيان الحلال من الحرام الذي كلفوا به علماً وعملاً، دون ما يشغل عن ذلك مما قد يؤدي إلى رد الحق وعدم قبوله فيفضي بهم إلى التكذيب، ولاسيما مع اختلاف الناس في وقته وكثرة خوضهم وجدلهم.

وقد كان شيخنا المصنف رحمه الله لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم وعباداتهم ومعاملتهم الذي لا غنى لهم عن معرفته، وينهاهم عن القراءة في مثل كتب ابن الجوزي كـ (المنعش) و (المرعش) و (التبصرة) لما في ذلك من الإعراض عما هو أوجب وأنفع، وفيها ما الله به أعلم مما لا ينبغي اعتقاده، والمعصوم من عصمه الله].

(المنعش) و (المرعش) و (التبصرة) من كتب ابن الجوزي، وهي مطبوعة ومعروفة، ولكن فيها حكايات وفيها كلام يحتاج إلى نظر في الواقع، والعادة التي جرى عليها الناس أن هذه الكتب تُقرأ على العوام، وهذه تقرأ على العوام وفيها شيء قد لا يكون له أصل، مثلما ذكر أن آدم عليه السلام لما أهبط نزل في وادي (صرمديد) فبكى حتى جرى ذلك الوادي من دموعه، ونبت على دموعه الدرافين والفلفل، وصار من طير ذلك الوادي الطاووس، ومثل هذا لا يجوز أن يعتقد ولا أساس له، وكما يذكر أيضاً أن فلاناً بكى حتى نبت من دموعه العشب على الأرض، وهكذا، فمثل هذه الأشياء تكون باطلة ولا تعقل.

فلا ينبغي أن يحدث بها الناس الذين إذا سمعوها صدقوا بها وآمنوا بها وجعلوا يتناقلونها وربما اعتقدوها، وهذه وأمثالها كثيرة توجد في مثل هذه الكتب، فلهذا كره شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن تُقرأ على العوام، أما كون الإنسان إذا كان طالب العلم يقرأ فيها ويميز بين الحق والباطل ويستفيد منها فلا بأس، أما أن تقرأ على عوام المسلمين الذين لا يميزون بين الحق والباطل فهذا لا ينبغي، فهذا الذي كرهه من هذه الناحية.

فلا ينبغي في مثل هذا أن يعتقد أن آدم نزل يبكي، بل آدم صلى الله عليه وسلم نزل ليعمر الأرض بالطاعة والعبادة، وليس بمجرد البكاء، فهو مثل ما قال الله جل وعلا: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:٣٠]، فالخليفة هو الذي يخلف من سبقه، وليس معنى ذلك أنه خليفة لله كما يقوله كثير من الناس، فالله ليس له خليفة تعالى الله وتقدس، وإنما هو خليفة لمن سبقه في الأرض، وقد قال المفسرون: إن آدم سبقه الجن إلى الأرض وأفسدوا فيها فقاتلتهم الملائكة، ولهذا قالت الملائكة لما قال جل وعلا: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:٣٠] أي: كما حدث ممن كان قبله، قالوا ذلك لأنه حدث مثل هذا ممن كان قبله.

فالمقصود: أن آدم عليه السلام ونوح وداود وأنبياء الله حياتهم كانت ليست لأجل البكاء فقط، فهم يبكون من خشية الله ومن خوفه، لكن لم يجلسوا يبكون حتى سالت الأودية من دموعهم، بل لا يعقل أن آدمياً يسيل من دموعه الوادي ثم تنبت عليه الأشجار ويكون من طيوره الطاووس وما أشبه ذلك، فهذه كلها حكايات وكلام لا يجوز أن يُصدق، وليس عليها دليل، حتى ذكر في هذه الكتب وغيرها ما هو من وصف نبينا محمد الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهي كلها غير صحيحة.

ومثل أمورٍ يذكرونها عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقرأ الآية ثم يمرض ويبقى أياماً يعوده الناس من جراء قراءته للآية، وهذا كله غير صحيح، بل كان رضي الله عنه يقرأ الآية ويبكي، ثم بعد أن ينتهي من صلاته يدبر أمر الجيش الذي يرسله، وقد يفكر فيه في نفسه ويدبره، فيجمع في قلبه بين خشية الله وتدبر القرآن والبكاء وبين الأعمال الصالحة من الجهاد في سبيل الله وتدبير الأمور، وهكذا كل الكتب الذي ذكرها الشيخ وغيره فيها من هذا النوع شيء كثير، وأكثرها باطل لا يجوز اعتقاده.