للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير المتشابه عند السلف]

قال الشارح رحمه الله تعالى: [ذكر ما ورد عن علماء السلف في المتشابه.

قال في الدر المنثور: أخرج الحاكم -وصححه- عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، فنزل القرآن من سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا)].

التشابه على هذا القول هو الذي يشتبه معناه على السامع، فيصبح معناه مشتبهاً، فما يدري أمعناه كذا أو معناه كذا.

ومثل هذا يجب عليه أن يقول: آمنت به فهو من عند الله.

وليست هذه صفة القرآن في الواقع، فالقرآن بين واضح، وقد أخبر الله جل وعلا أنه كله محكم، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود:١]، فكل آياته محكمة ومفصلة من لدن حكيم خبير جل وعلا.

أما ما جاء في وصفه بأنه كله متشابه كما قال الله جل وعلا: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:٢٣] فكونه متشابه هنا يعني أن معناه يشبه بعضه بعضا، لا أنه متشابه على السامع يختلف عليه، بل معناه أنه يصدق بعضه بعضا، ويشبه بعضه بعضاً لكونه من الله جل وعلا وحده، كما قال جل وعلا: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:٨٢]، فوصف مرة بأنه كله محكم، ووصف أخرى بأنه كله متشابه، والإحكام واضح بأنه محكم مفصل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يأتيه نقص، ولا يأتيه تناقض، وليس فيه تفاوت، بل هو محكم مفصل -أي: مبين-، ومحكم ليس فيه شيء يناقض شيئاً، ولا يمكن أن يدخله تعارض.

وأما كونه كله متشابهاً فهو أنه يشبه بعضه بعضاً في الإحكام والتفصيل والإعجاز والبيان والإيضاح وكونه أعظم كتاب لا أحد يستطيع أن يأتي بشيء مثله.

وليس في هذا يشتبه على السامعين فلا يعرفون معانيه، ليس هذا المقصود، بل التشابه يكون في بعض الآيات نسبياً، ومعنى أنه بالنسبة لبعض الناس يكون متشابهاً، أما العلماء فليس عندهم بمتشابه، بل هو واضح وجلي، ولهذا جاء عن ابن عباس وصفه لكتاب الله أنه على أقسام: قسم تعرفه العرب من كلامها، وقسم يعرفه العلماء، وقسم لا يجهله أحد، بل العامة تعرفه، فإذا قال الله: (أقيموا الصلاة)، و (اعبدوا الله) فما هناك أحد يعرف اللغة العربية إلا وهو يعرف هذا المعنى، ولم يجعل فيه شيء لا يعرفه إلا الله.

نعم.

بعض العلماء قال: إن هناك أشياء لا يعلمها إلا الله، وهي حقائق الأمور المخبر عنها، مثل حقائق ما أخبر عنه جل وعلا في الموقف، أو في الجنة أو في النار، فهذا شيء معلوم في الجملة أنه له نظير، ولكن ليس مثله ولا قريباً منه، فالله أخبرنا أن في الجنة عنباً ونخلاً وفواكه، وأنَّ فيها زوجات، وأن فيها أنهاراً، ولو قيل لإنسان: هناك نهر من لبن فلن يصدق، فالمقصود أن اللبن والخمر والعسل نعرفه عندنا، ولكن هل هو الذي في الجنة؟ لا ولا بقريب منه، وإنما يتفق معه في الاسم فقط، أما في اللون وفي الرائحة وفي الطعم وفي الحقيقة فهو لا يعرفه إلا من كان فيه وأكله أو شربه أو نظر إليه.

والله جل وعلا يقول في المؤمنين: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:١٧] و (نفس) نكرة، يعني: لا يعلم ذلك ملك، ولا رسول، ولا بشر، ولا أحد يعرف ذلك وابن عباس يقول: ليس عندكم مما في الجنة إلا الأسماء، أما حقائق الأشياء فليست معروفة.

وكذلك النار -نسأل الله السلامة والعافية-، فعذابها وأغلالها وعقاربها وحياتها ومقارعها وزقومها وكل ما فيها ما يعرفه على الحقيقة إلا من كان فيه، وإن كان في الجملة له نظير نفهم بواسطة ما خوطبنا به، ولهذا استدل العلماء بهذه الأمور على أن الواجب على الإنسان إذا سمع صفات الله جل وعلا أن يؤمن بها على ظاهرها مع مخالفة الحقائق لما يعرفه، فحقائقها مختلفة، فإذا كانت الحقائق للمخلوقات لا تتفق فكيف بين الخالق والمخلوق جل وعلا.

ولهذا كان رجل ممن عنده انحراف أو من المتسرعين يتكلم في آيات الصفات، فبلغ شيخه أنه يتكلم، فاستدعاه لينصحه، فقال له: يا بني! أخبرني عن مخلوق من مخلوقات الله صغير له ستمائة جناح، جناحان في جنبيه، فالبقية أين تكون؟ فقال: كيف أصفه لك؟ لا أعرف.

قال: كيف لا تعرف مخلوقاً من مخلوقات الله، ولا تعرف وصفه وتذهب تتكلم في الله جل وعلا الذي هو أعظم من كل شيء وأكبر من كل شيء؟! فصارت هذه موعظة له وانتهى عما كان فيه.

فالمقصود أن التشابه ليس كما يدعي بعض الناس ويقول: إن صفات الله متشابهة ويجب ألا نخوض فيها.

فهذا معناه أنه يجب ألا نعتقد ظاهرها، ولهذا إذا ذكر الاستواء وما أشبه ذلك قالوا: هذا من المتشابه الذي لا يجوز أن نعتقد ظاهره.

ثم يذهب القائل يؤول، فكيف يكون متشابهاً ثم يذهب يأوله ويقول: معناه كذا ومعناه كذا؟ تناقض دعاه إليه ما في قلبه من الزيغ، نسأل الله العافية.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال: وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:٧] الآية قال: طلب القوم التأويل فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، وطلبوا ما تشابه منه فهلكوا بين ذلك.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران:٧] قال: منهن قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:١٥١] إلى ثلاث آيات، ومنهن: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء:٢٣] إلى آخر الآيات].

يعني الآيات التي فيها الأوامر الواضحة الجلية من المحكمات، وهي كثيرة جداً.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأخرج ابن جرير من طريق أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم: المحكمات الناسخات التي يعمل بهن، والمتشابهات المنسوخات].

هذا قول ثالث ولا يخالف ما سبق.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:٧]، فقال أبو فاختة: هن فواتح السور منها يستخرج القرآن.

{الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:١ - ٢] منها استخرجت البقرة، و {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [آل عمران:١ - ٢] منها استخرجت آل عمران.

وقال يحيى: هن اللاتي فيهن الفرائض والأمر والنهي والحلال والحرام والحدود وعماد الدين.

وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: المحكمات فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس فيها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه، وأخر متشابهات في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله بهن العباد كما ابتلاهم بالحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق].

وفي هذا قول رابع، وهو أن المحكم هو الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً، والمتشابه هو الذي يحتمل عدة معانٍ، أما المحكم فهو يكون واضحاً معناه لا يحتمل إلا معنى، كقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:٣٦]، وكذلك (أقيموا الصلاة) وما أشبه ذلك، وهذا يعود إلى القول الثالث.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان أنه قال: (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) لأنه ليس من أهل دين لا يرضي بهن، (وأخر متشابهات) يعني -فيما بلغنا- (الم) و (المص) و (المر).

].

من أشهر ما ذكر أن من المتشابه فواتح السور التي فتحت بالحروف المقطعة، ولهذا كثير من المفسرين إذا جاء إليها قال: الله أعلم بمراده.

فيقفون ولا يتكلمون فيها، ويرون أنها من المتشابه، ويقولون: الله أعلم بمراده؛ لأنها حروف مقطعة، ولكن بعض العلماء تكلم فيها وبين معانيها وقال: إنها تدل على التحدي.

فالله جل وعلا يقول: هذا الكتاب الذي يتلى عليكم هو من الحروف التي تنطقون بها التسعة والعشرين حرفاً، فإذا كنتم تزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرسل أو أنه ساحر أو أنه كاهن فأتوا بشيء نظير ما جاء به وهو من كلامكم الذي تنطقون به وتتحدثون به.

ولهذا يقول: ما جاء حرف من هذه الحروف إلا وذكر بعده القرآن، كما قال الله جل وعلا: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:١ - ٢]، فهو إشارة إلى التحدي وإعجازهم بذلك.

أما ما ورد من أنها عبارة عن عمر الدنيا وبقاء هذه الأمة فليس صحيحاً، وليس عليه من دليل؛ لأنهم جعلوها من حروف (الأبجد) التي يتكلمون فيها في الأعداد، فالَألِفُ واحد، والباء اثنان، والجيم ثلاثة، وإذا رجعت مرة أخرى تضاعفت الأعداد إلى آخره، فهذا غير صحيح، فعمر الأمة أو عمر الدنيا لا يعلمه إلا الله، وليس هذا إشارة إليها.