للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

باب قول الله تعالى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٢]].

سبق أن التوحيد هو إخلاص العمل لله جل وعلا، وأن الإخلاص هو أن يكون العمل خالصاً ليس فيه شيء لغير الله جل وعلا، وأن تحقيق التوحيد أن يكون لله وحده، وتحقيقه تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك ومن الذنوب ومن البدع، فجميع الأعمال تصفى وتخلص من شوائب الشرك فلا يكون لأحد فيها شيء.

وأن يجتنب الإنسان البدع كلها والذنوب، فإذا كان بهذه الصفة فهو من المحققين للتوحيد، وإذا مات على ذلك دخل الجنة بلا حساب.

والند هو المثيل والنظير، ولا يلزم أن يكون مماثلاً من جميع الوجوه، فإذا كان مماثلاً ولو بوجه من الوجوه، في صفة من الصفات، أو مماثلاً في فعل من الأفعال صح أن يقال: إنه ند، وقول الله جل وعلا: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٢] هذا جاء بعد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:٢١]، فهنا جعل الخطاب عاماً (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، فأمر بالعبادة، (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ)، ومعلوم أنه ليس هناك أحد ينفك عن عبادة الله، فجميع الخلق لا ينفكون عن العبادة ولو جزئياً بأن يعترفوا بأن الله هو خالقهم، ولكن هذه العبادة لا تكون عبادة شرعية، وإنما تكون شرعية إذا كانت على وفق أمر الله وليس فيها شيء من الشرك، فهنا تكون عبادة مفيدة ومثمرة.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ)، فبدأ بأنه خلقهم لأنهم يعترفون بهذا، وهذا يدل على أن المعبود يجب أن يكون الخالق الذي خلق، وأن الخالق هو الذي يستحق العبادة، أما الذي لا يخلق ولا يرزق فلا يستحق العبادة؛ لأنه مخلوق.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ والذين مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني: ليس الخلق خاصاً بكم أنتم، بل خلق كل شيء، فهو الخالق لكل شيء، وهم يعترفون بهذا ولا ينكرونه، وهذا معناه أنهم يقرون بتوحيد الأفعال، أو إن شئت فقل: بتوحيد الربوبية.

فالأفعال التي تصدر من العبد يؤمر فيها أن تكون أفعاله خالصة لله، وعبادته خالصة لله، وإلا كان هناك تناقض، فلو كان التوحيد شيئاً واحداً لصار هذا الكلام متناقضاً؛ فكيف يقول: اعبدوا ربكم.

ثم يقول: الذي خلقكم والذين من قبلكم؟ فيقال: العبادة موجودة؛ لأنهم يعترفون أن الله هو الذي خلقهم، فهذا هو التوحيد، ولكن لما جعل هذا موجباً للعبادة الصادرة منهم دل على أنهم لو استمروا على الاعتراف بأن الله هو الذي خلقهم والذين من قبلهم وهو الذي أوجد لهم النعم فهذا لا يجدي شيئاً، وأنهم على الكفر، فهم كفار وإن اعترفوا بهذا، ولهذا قال بعد ذلك: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) عطفاً على قوله: (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي: يبين لكم هذا الأمر لعلكم تجعلوا بينكم وبين عذاب الله شيئاً واقياً وذلك بامتثال أمره، وليس معنى ذلك أن الله لا يعلم ما يحدث منهم.

فالتعليل الذي يذكره الله جل وعلا لا يدل على أنه يخفى عليه شيء، بل هو عالم بكل شيء، وعالم بما سيكون منهم، ولكن التعليل بالنسبة لما يُذكرهم به علَّهم أن يحدث لهم اتعاظ وخوف ورجوع إلى الحق، قال الله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً} [البقرة:٢٢] أي: جعلها ممهدة تطمئنون فيها بالاستقرار عليها والمسير فيها والانتفاع بها، ولم تكن مضطربة لا تستطيعون الاستقرار عليها، بل جعلها كالفراش الذي تجلس عليه وتنام.

قوله: (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)، أي: جعلها فوقكم تشاهدونها، ولا يعتقد أحد أن مخلوقاً ما هو الذي سوى الأرض بهذا الشكل، أو أنه هو الذي رفع السماء وجعلها فوق الأرض، أو أنه شارك الله في ذلك، بل كلهم يعترفون بأن الله جل وعلا هو الخالق لكل شيء.

(وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً) المقصود بالسماء العلو، أي: أنه أنزل من فوق رءوسكم ماء خلقه في الجو، بل جبال من المياه تحملها السحب، ولو شاء لأغرقكم بذلك، ولكنه برحمته جعل نزولها على صفة لا يضر من نزل عليه رحمة منه بكم، من الذي يتصرف هذا التصرف؟ هل الماء نفسه يتصرف بذلك؟ لا يمكن.

{وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} [البقرة:٢٢] ثمرات الأرض: كل شيء تأكلونه وتأكله أنعامكم، وهو الذي أنزل الماء، وفتق الأرض له فخرجت منها أنواع متعددة.

التراب واحد والماء واحد، ولكن الخارج متنوع الطعوم والألوان كل هذا دليل على أن الله جل وعلا هو المتصرف في كل شيء.