للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله]

[قال المصنف رحمه الله تعالى: باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله].

الحلف بالله هو منتهى الاجتهاد في إثبات صدق الخبر، وقد أخبر الله جل وعلا عن الكفار والمشركين أنهم إذا اجتهدوا في أيمانهم أقسموا بالله، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام:١٠٩]، فأصبح القسم بالله هو جهد اليمين، يعني: ليس وراءه شيء، وكذلك: مقتضى الوضع أن الذي يحلف بالله جل وعلا وهو صادق فمعناه أنه يعلم أن الله مطلع عليه، وأن الله يثيبه على صدقه.

أما الكاذب فبخلاف ذلك، يعني: إما أنه مستهتر بالله جل وعلا ومتهاون به، أو أنه لا يعتقد أن الله يعلم ما في قلبه، وأن الله يعاقب على ذلك، وكل هذا خلاف كمال التوحيد، ومن تعظيم اسم الله جل وعلا ألا يذكر إلا على حق، ثم إذا ذكر له فإنه يقتنع ويرضى به، ولكن هذا ليس في كل موطن، وإنما يكون ذلك في الأيمان الشرعية عندما يكون هناك حكم شرعي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (البينة على المدعي، وعلى المنكر اليمين)، فالمدعى عليه يقسم بالله، ويبرأ، فإذا حصل الحلف بالله يجب على المحلوف له أن يرضى؛ لأن هذا حكم شرعي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ووجب أن يرضى به، والذي لا يرضى يكون إما ناقص التوحيد؛ لأنه ارتكب محرماً، أو لأنه لم يقدر الله جل وعلا حق قدره، أما في مخاطبات الناس ومحاوراتهم فإن هذا لا يلزم؛ لأن كثيراً من الناس يحلف بالله إما على ظن ضعيف، وإما على غير ظن.

فإذا كان الإنسان يعلم أن الأمر في الواقع بخلاف حلفه لم يلزمه أن يرضى بذلك؛ غير أن المؤمن يجب أن يحفظ أيمانه، وكذلك عند الاعتذارات: إذا اعتذر أخ لأخيه، أو عند التهم: إذا اتهم بشيء فحلف بالله أنه ما صار كذا، وأنه ما وقع مني كذا، أو حلف بالله يعتذر له، ويقول: إنه صادق، فإنه ينبغي عليه أن يرضى بذلك، ويصدق ويحمل أخاه على المحمل الطيب الحسن، فإن هذا من حق المسلم على المسلم، ومن لم يفعل ذلك فإنه آثم وتوحيده ناقص، أي أنه لم يأت بكمال التوحيد، فهذا هو وجه إدخال هذا الباب في كتاب التوحيد من هذا الوجه.

والذي لا يرضى بما حلف له على وجه الاعتذار أو رفع التهمة من أخيه يكون مذنباً، ويكون ذلك نقصاً في توحيده، أما الحلف بغير الله جل وعلا فإنه مضى أنه من الشرك، وقد يكون شركاً أكبر وقد يكون أصغر على حسب ما يقوم في نفس الحالف.

قال المصنف: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحلفوا بآبائكم؛ من حُلف له بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله)، رواه ابن ماجة بسند حسن].

أما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم) فقد سبق بيانه، وأن الحلف بغير الله جل وعلا شرك أو كفر، سواء كان بالآباء، أو بالأمانات، أو بالبيت، أو بالنبي، أو بأي مخلوق من المخلوقات فإنه لا يجوز أن يحلف بغير الله جل وعلا، أو بصفة من صفاته؛ لأننا منعنا من غير ذلك.

وأخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الحلف بغير الله شرك؛ فلا يجوز أن يرتكب هذا النهي، ولو كان ذلك يجري على لسانه مجرد كلام لا يقصد به حقيقته فإنه محرم، ويكون من الشرك اللفظي الذي يكون من الشرك الأصغر، أما إذا كان يقصد الحقيقة، فهذا قد يرقى عن الشرك الأصغر إلى الأكبر.

وأما قوله: (ومن حلف بالله فليصدق)، فهذا من حفظ الأيمان، والإنسان يحفظ يمينه والصدق مأمور به مطلقاً، فالله أمرنا أن نكون مع الصادقين، وأمر بالصدق ونهى عن الكذب، فالصدق من الحسنات، والكذب من صفات المنافقين، والمؤمن لا يكذب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أيزني المؤمن؟ قال: نعم، قيل: أيسرق المؤمن؟ قال: نعم، قيل: أيكذب المؤمن؟ قال: لا)، فالكذب محرم قليله وكثيره، ولا يصلح منه شيء إلا ما استثني في الحديث من الأمور الثلاثة، وفي الواقع أنها من المعاريض وليست كذباً صريحاً، ولكن الأخبار التي يخبر بها تحمل على فهم السامع، فإذا كان الخبر على خلاف ظاهره فإنه يحتمل أن يكون مراداً ويحتمل أن لا يكون مراداً، وإذا كان له غرض صحيح فلا بأس بذلك، ولهذا جاء في الحديث: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب)، يعني: فيها مجال ومتسع يغني عن أن يكذب الإنسان، فالكذب لا يجوز منه شيء، والصدق واجب، فكيف إذا كان مع الخبر يمين فإن الكذب يكون أكبر وأعظم جرماً مما لو كذب بلا حلف، لهذا قال: (ومن حلف بالله فليصدق)، وهذا أمر يقتضي الوجوب.

ثم قال: (ومن حلف له بالله فليرض)، أي: أذا أخبرك مخبر ثم أقسم على خبره بالله أن هذا هو الواقع، فيجب عليك أن ترضى إن لم يكن المخبر معروفاً بانتهاك الدين وبكونه لا دين له؛ لأنه جاء في قصة محيصة وحويصة اللذين قتل أخوهما في خيبر ولا يدرى من قتله، ومعلوم أن الذي قتله اليهود؛ لأنهم أعداء المسلمين في ذلك اليوم، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره قال: (تبرئكم يهود بخمسين يميناً، قال: إنهم لا أيمان لهم)، يعني: كيف نرضى بهذا؟! فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم عدم الرضا؛ لأن هؤلاء لا دين لهم، وقد يحلفون وهم كذبة.

وكذلك الرجل الذي جاء يخاصم آخر في أرض قد استولى عليها أحدهم، قال له: (ألك بينة؟ قال: لا.

قال: إذاً لك يمينه، فقال: إذاً يأكل مالي)؛ لأنه رجل فاجر، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا قال: يلزمك أن ترضى بهذا، بل قال: (ليس لك إلا يمينه)، فدل هذا على أن المتهم في دينه لا يلزم أن يصدق يمينه إذا حلف.

غير أن الحكم الشرعي إذا حكم الحاكم باليمين يلزم المحكوم عليه أن يرضى بهذا الحكم ويسلم بذلك؛ لأن هذا هو حكم الشرع.

(ومن لم يرض فليس من الله في شيء): هذا كقوله جل وعلا: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:٢٨]، يعني: ليس له نصيب في الآخرة؛ فهو من الوعيد الشديد الذي يقتضي وجوب الرضا بالحلف بالله جل وعلا في الحكم، قال بعض العلماء: إن الحديث خاص بالحكم؛ لأنه يجب الرضا به، ويظهر أنه عام فيما إذا جاء إليك أخوك معتذراً من أمر قد بدر منه، ويحلف لك أنه صادق، وأنه ليس لديه إلا النصح لك والمودة، فإنه يجب عليك أن ترضى بهذا.

وكذلك إذا اتهم في شيء وعوتب في ذلك، ثم حلف أنه على خلاف هذا، فإنه يجب أيضاً عليك أن ترضى، ومن لم يرض فإنه داخل في هذا الوعيد.

ومناسبة الحديث للباب: أن الذي لا يرضى بالحلف بالله متوعد بقوله: ((فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْء) وهذا يدل على نقص توحيده: إما ذهابه كله، وإما ذهاب كماله.