للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[آثار تصديق الحالف في اليمين]

قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (لا تحلفوا بآبائكم) تقدم النهي عن الحلف بغير الله عموماً.

قوله: (من حلف بالله فليصدق) هذا مما أوجبه الله على عباده، وحضهم عليه في كتابه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:١١٩]، وقال: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} [الأحزاب:٣٥] وقال: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:٢١]، وهو حال أهل البر، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:١٧٧]].

قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) يعني: كل الخصال التي ذكرت في أهل البر صدقوا فيها، فهذا يدلنا على أن الصدق يجمع خصال الخير كلها، فهو وصف أهل الإيمان، وأهل التقى والبر، أما خلاف الصدق فهو الكذب، فهو صفة أهل النفاق.

[وقوله: (من حلف له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله)، أما إذا لم يكن له بحكم الشريعة على خصمه إلا اليمين فأحلفه، فلا ريب أنه يجب عليه الرضا، وأما إذا كان فيما يجري بين الناس مما قد يقع في الاعتذارات من بعضهم لبعض ونحو ذلك؛ فهذا من حق المسلم على المسلم أن يقبل منه إذا حلف له معتذراً أو متبرئاً من تهمة.

ومن حقه عليه أن يحسن به الظن إذا لم يتبين خلافه، كما في الأثر عن عمر رضي الله عنه: (ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شراً وأنت تجد لها من الخير محملاً).

وفيه من التواضع والألفة والمحبة وغير ذلك من المصالح التي يحبها الله ما لا يخفى على من له فهم؛ وذلك من أسباب اجتماع القلوب على طاعة الله، ثم إنه يدخل في حسن الخلق الذي هو أثقل ما يوضع في ميزان العبد، كما في الحديث، وهو من مكارم الأخلاق.

فتأمل أيها الناصح لنفسه ما يصلحك مع الله من القيام بحقوقه، وحقوق عباده، وإدخال السرور على المسلمين، وترك الانقباض عنهم، والترفع عليهم؛ فإن فيه من الضرر ما لا يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال، وبسط هذه الأمور، وذكر ما ورد فيها مذكور في كتب الأدب وغيرها.

فمن رزق ذلك والعمل بما ينبغي العمل به منه، وترك ما يجب تركه من ذلك؛ دل على وفور دينه وكمال عقله، والله الموفق والمعين لعبده الضعيف المسكين.

والله أعلم].

يعني: هذا من حق المسلم على المسلم، ومما يجب أن يعتنى به ولا يتهاون به؛ لأن هذا مقتضى الإيمان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا؛ أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام فيما بينكم).

فقوله: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا)، هذا أمر من ضروريات الشرع وأن الإيمان لابد منه، وأن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة، وقوله: (ولا تؤمنوا حتى تحابوا) المقصود به التحاب في الدين وعلى العقيدة، فتحبه لأنه يعبد الله، ولأنه شاركك في الإيمان بالله، وفي طاعة الله جل وعلا، فتود له ما تود لنفسك، وهذا يجب على جميع المسلمين، ومن أخل به فإنه ناقص الإيمان إن لم يكن إيمانه زائلاً بالكلية، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كالجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، كذلك يمثلهم بأنهم كالبنيان يشد بعضهم بعضاً، يعني: أنه يجب التعاون فيما بينهم، ويجب أن يتراحموا، ويكون بينهم ألفة الإيمان، ويكون المؤمن مرآة المؤمن، والمرآة ينظر فيها حتى يزيل الأذى من وجهه وبدنه، فالمؤمن يزيل الأذى عن أخيه، ويبعده عنه، هذا معناه: أنه لا يكون إلا جالباً للخير لأخيه.

أما إذا انعكست الأمور وصار يجلب له الأذى والشر، فمعنى ذلك إما أن يكون الإيمان زائلاً بالكلية، وأنه لا أثر له في أعماله فهذا إيمانه ضعيف وغير مؤثر، وقد يزول في وقت ما.

والذي ينظر إلى حالة المسلمين ولاسيما في المشاعر والطواف مثل رمي الجمار ويرى بعضهم يدوس بعضاً، وبعضهم يقتل بعضاً يعرف أن الإيمان عندهم إما معدوم، وإما ضعيف وإلا لو كانوا يتحلون بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن يقتل مؤمناً مؤمن برجليه يدوسه وهو يؤدي فريضة من فرائض الله جل وعلا، وليس الأمر لأن هذه الأماكن تقتضي ذلك، كلا.

ولكن الواقع أن الفعل يصدر مهم لجهلهم وعدم مراعاة حقوق إخوانهم بعضهم لبعض.

وهكذا في جميع المجالات يجب أن يراعى حق المؤمن لأمر لله جل وعلا واتباعاً لشرعه، وكذلك عندما يبدو منه بادرة تدل على المخالفة؛ فإنه يجب نصحه أولاً فربما يكون ذلك لأنه جاهل ولو عرف الحق لم يفعل ذلك، ولا يجوز أن تعنف عليه بالكلام، أو السب والشتم، بل يجب أن يكون ذلك برفق وبلين يقصد به هدايته، وإذا اعتذر يجب أن يقبل عذره في جميع المجالات التي يمكن أن يسعه الاعتذار فيها في أمور الدين، أما أمور الدنيا فلا تساوي شيئاً كلها ولا يجوز أن يتعادى عليها أو يتباغض من أجلها، فإن حصل ذلك فهذا من الظلم.