للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[متى تثبت الأحكام الشرعية بالرؤى]

قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله (عن الطفيل أخي عائشة لأمها) هو الطفيل بن عبد الله بن سخبرة، أخو عائشة لأمها، صحابي له حديث عند ابن ماجه، وهو ما ذكره المصنف في الباب، وهذه الرؤيا حق، أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بمقتضاها، فنهاهم أن يقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله وحده، وهذا الحديث والذي قبله: أمرهم فيه أن يقولوا: ما شاء الله وحده، ولا ريب أن هذا أكمل في الإخلاص، وأبعد عن الشرك من أن يقولوا: ثم شاء فلان؛ لأن فيه التصريح بالتوحيد المنافي للتنديد من كل وجه، فالبصير يختار لنفسه أعلى مراتب الكمال في مقام التوحيد والإخلاص.

قوله: (كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها) ورد في بعض الطرق: أنه كان يمنعه الحياء منهم، وبعد هذا الحديث الذي حدثه به الطفيل عن رؤياه، خطبهم صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك نهياً بليغاً، فما زال صلى الله عليه وسلم يبلغهم حتى أكمل الله له الدين، وأتم له به النعمة، وبلغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وفيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) قلت: وإن كانت رؤيا منام فهي وحي، يثبت بها ما يثبت بالوحي أمراً ونهيا، والله أعلم].

فلا يثبت بالرؤيا حكم إلا إذا كانت من النبي صلى الله عليه وسلم أو عرضت قصة الرؤيا عليه مثل هذه، ثم أثبت بها شيئاً، أما من غيره فلا يثبت بها حكم أصلاً، وهذا باتفاق العلماء، وإنما قد تكون الرؤيا قرينة من القرائن التي يثبت بها الدليل فتكون من جملة الأدلة، وهناك أدلة غيرها فتكون مرجحة فقط كما في رؤيا ثابت بن قيس بن شماس خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا جاءت الوفود يقدمه النبي صلى الله عليه وسلم فيخطب، ولما كان القتال مع مسيلمة الكذاب وأصحابه تحنط، ثم تقدم وصمد حتى قتل رضي الله عنه، ثم في الليل رآه أحد أصحابه فقال له: اذهب إلى أمير الجيش خالد بن الوليد فقل له: إن درعي عند فلان قد ألقى عليها برمة، وتجدون عند خبائه فرساً تستن برباطه، ثم قل له إذا قدم على أبي بكر: إن عليّ كذا لفلان من الدين، وإن عبدي الفلاني عتيق، وإياك أن تقول هذه أضغاث أحلام! فلما أصبح غدا على خالد وأخبره، فذهبوا إلى المكان الذي وصفه فوجدوا درعه كما وصفه ملقىً عليها برمة فأخذها، ولما أتى خالد إلى أبي بكر أخبره بذلك فنفذ وصيته، وليس هذا عمل بالرؤيا، وإنما لأنها صارت هناك قرينة وأدلة يعتمد عليها، وفي جميع الأوقات لا يثبت فيها حكم من الأحكام، وإنما تكون دليلاً على شيء، إما بشارة أو نذارة أو غير ذلك.

أما الرؤيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي وحي، واختلف العلماء في معنى قوله: (الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) فقالوا: إن معنى هذا أنه بدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا الصادقة قبل أن يأتيه الوحي، لما كان يخلو في غار حراء ويتحنث، يعني: يتعبد، فكان إذا رأى رؤيا جاءت كمثل فلق الصبح، كأنها شيء واقعي يراه عياناً، وكانت هذه المدة ستة شهور، ثم جاء بالوحي بعد ذلك، فهذه الستة الشهور إذا نسبت إلى ثلاث وعشرين سنة صارت جزءاً من ستة وأربعين جزءاً، وهذه بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، وهذا هو أظهر الأقوال في هذا الحديث، أنها (جزء من ستة وأربعين جزءاً) والله أعلم.