للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى سب الدهر عند أهل الجاهلية]

قال الشارح: [وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جداً، بهذا الطريق، قال: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا، فقال الله في كتابه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:٢٤]، ويسبون الدهر، فقال الله عز وجل: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار)، وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن منصور، عن شريح بن النعمان، عن ابن عيينة مثله، ثم روى: عن يونس، عن ابن وهب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يقول الله تعالى: يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار) وأخرجه صاحب الصحيح، والنسائي من حديث يونس بن يزيد به.

وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل: استقرضت عبدي فلم يعطني، وسبني عبدي، يقول: وادهراه، وأنا الدهر).

قال الشافعي، وأبو عبيد وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر)، كانت العرب في جاهليتها إذا أصباهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا: يا خيبة الدهر! فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله تعالى، فكأنما سبوا الله سبحانه؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار؛ لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال، هذا أحسن ما قيل في تفسيره -وهو المراد- والله أعلم.

وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى، أخذاً من هذا الحديث، انتهى.

وقد تبين معناه في الحديث بقوله: (أقلب الليل والنهار)، وتقلبيه تصرفه تعالى فيه بما يحبه الناس ويكرهونه.

وفي هذا الحديث زيادة لم يذكرها المصنف رحمه الله تعالى وهي قوله: (بيدي الأمر).

قوله: وفي رواية: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر) معنى هذه الرواية: هو ما صرح به في الحديث، من قوله: (وأنا الدهر أقلب الليل والنهار) يعني: أن ما يجري فيه من خير وشر بإرادة الله وتدبيره بعلم منه تعالى وحكمة، لا يشاركه في ذلك غيره، ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن.

فالواجب عند ذلك حمده في الحالتين، وحسن الظن به سبحانه وبحمده، والرجوع إليه بالتوبة والإنابة، كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:١٦٨] وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:٣٥]، ونسبة الفعل إلى الدهر ومسبته كثيرة، كما في أشعار المولدين كـ ابن المعتز والمتنبي وغيرهما.

وليس منه وصف السنين بالشدة ونحو ذلك، كقوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} [يوسف:٤٨] الآية، قال بعض الشعراء: إن الليالي من الزمان مهولة تطوى وتنشر بينها الأعمار فقصارهن مع الهموم طويلة وطوالهن مع السرور قصار وقول أبي تمام: أعوام وصل كاد ينسي طيبها ذكر النوى فكأنها أيام ثم انبرت أيام هجر أعقبت نحوي أسى فكأنها أعوام ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام]