للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم الله تعالى بين خلقه في الآخرة]

وأما في الآخرة فهو الذي يتولى الحكم بين خلقه بنفسه، فلا يحكم بينهم ملك ولا رسول، بل كل واحد منهم سوف يحكم الله جل وعلا فيه، وهو علام الغيوب لا يخفى عليه شيء من أفعال هذا المخلوق، قد أحصاها عليه، فيقرره بأفعاله كلها، ويأتي خصمه فيحكم بينه وبينه، والحكم في ذلك الموقف إنما هو بالحسنات والسيئات، فيؤخذ للمظلوم من حسنات الظالم حتى يكتفي، فإن لم يكن للظالم حسنات أُخذ من سيئات المظلوم فطُرحت على الظالم، ثم طُرح في النار.

فكل واحد يحكم الله جل وعلا فيه، سواء فيما بينه وبين ربه: هل التزم أوامره واجتنب نواهيه؟ أو فيما وبين الخلق في المظالم والحقوق، فالحكم يكون عاماً في كل ما يفعله المخلوق في الدنيا من علاقاته مع ربه أو علاقاته مع الخلق، ولهذا ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، وهذا الحكم يكون بعد الوقوف الطويل، فالخلق يخرجون من قبورهم، ويحشرون في مكان واحد جميعاً، فيقفون وقوفاً طويلاً، وهذا الوقوف وقوف ثقيل وعظيم كما قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:٢٧]، ويقول جل وعلا: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:١ - ٦].

فيقومون على أرجلهم ألف سنة وهم في مكان واحد، والشمس فوق رءوسهم واقفة لا تسير، فإذا اشتد بهم الكرب ويتمنى كثير منهم أن يُذهب به ولو إلى النار؛ لشدة هذا الموقف، فإذا أراد جل وعلا أن يحكم بينهم، يلهمهم أن يطلبوا الشفاعة من الرسل، والرسل وقوف معهم، فيبدءون بآدم عليه السلام وينتهون إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وكل واحد من آدم إلى عيسى يعتذر ويقول: لا أستطيع أن أشفع في هذا اليوم العظيم؛ وربنا غضب اليوم على خلقه غضباً شديداً، وكل واحد يقول: لا أسأل ربي إلا نفسي، فيشفع محمد صلى الله عليه وسلم في أن يأتي الرب جل وعلا للفصل بين خلقه والحكم بينهم، وهذه شفاعة يشترك فيها المؤمنون والكفار والأبرار والفجار، ثم يأتي الرب جل وعلا وهو على عرشه فيحكم في كل واحد، وأما الناس الكفرة الذين ليس لهم حسنات تزون، فهؤلاء يؤمر بهم إلى النار بدون محاسبة، كما قال الله جل وعلا: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:١٠٥] أي: لا يحاسبون.

والناس هناك ينقسمون إلى أقسام: قسم هذا الذي سبق وذكرناه، وقسم آخر ليس لهم سيئات، وهؤلاء لا يحاسبون، وقسم لهم سيئات وحسنات، وعندهم مظالم، فهؤلاء لابد أن يحاسبوا، مع أن الكفار الذين ليس لهم حسنات لا يمكن أن يذهبوا إلى النار حتى يقتص ممن عنده ظلم لغيره، ولهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن البهائم يقتص لبعضها من بعض في ذلك اليوم، قال صلى الله عليه وسلم: (والله ليقتصن من الشاة القرناء للشاة الجلحاء) الجلحاء: التي ليس لها قرون، إذا نطحتها التي لها قرون فإنها تؤذيها أكثر، فيقتص منها يوم القيامة، ثم بعد ذلك يقول الله جل وعلا لها: كوني تراباً، فتكون تراباً، وعند ذلك يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:٤٠] أي: مثل البهائم، ولكن هيهات! فإن الإنسان خلق للعذاب أو للنعيم.

فالمقصود: أن حكم الله عام في الدنيا والآخرة، ولكن في الدنيا قد ينازع ابن آدم الربَّ جل وعلا، ينازعه ويزعم أن له شيئاً من الحكم؛ لأن ابن آدم خلق ظلوماً جهولاً، فإذا اجتمع الظلم والجهل فإنه يجتمع الشر كله، فلهذا لا يجوز أن يتكنى الإنسان باسم من أسماء الله كأبي الحكم؛ لأن هذا فيه امتهان لاسم الله جل وعلا، ولهذا غيَّره الرسول صلى الله عليه وسلم بعد قوله: (ما أحسن هذا!) يعني: ما أحسن العدل والإنصاف الذي يرضى به الفريقان.