للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة محمد وعيسى صلى الله عليهما وسلم ومنزلتهما عند الله]

[المسألة الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم عبدي الله ورسوليه].

يقصد بهذا أنه حصل الغلو في كل منهما -أي: عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم-، أما الغلو في عيسى فقد ذكره الله جل وعلا في القرآن، وهو معلوم إلى اليوم، فالذين يزعمون أنهم نصارى يجعلونه الله، أو يجعلونه ابن الله، أو يجعلونه شريكاً لله جل وعلا وتعالى وتقدس عن قولهم، وهذا الذي عليه النصارى اليوم في جميع الأرض إلا من شاء الله، ومعلوم أن كل من زعم أنه متبع لنبي من الأنبياء يجب عليه -لو كان صادقاً- أن يتبع محمداً صلوات الله وسلامه عليه، وإن لم يفعل ذلك فهو في النار في جهنم، حتى وإن اتبع عيسى كما جاء فلم يقل: إنه ابن الله، ولا ثالث ثلاثة.

ولا هو الله، وإن قال: إنه عبد الله ورسوله واتبعه وآمن به واتبع كتابه الذي جاء به، فإذا لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ويتبعه فهو في جهنم خالداً مخلداً فيها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) يعني: ما تسعه شريعته أن يقول: أنا جئت بشريعة وأبقى عليها.

فلا بد أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أرسل إلى الناس كافة.

وبهذا المعنى استدل العلماء على ابطال قول الصوفية -أو كثير منهم-: إن الخضر موجود، وإنه يأتي ويحضر بعض المجالس؛ لأن الخضر لو كان موجوداً وجب أن يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويجاهد معه ويتعلم ما جاء به؛ لأنه لا يسعه إلا ذلك، وليس الأمر كما كان للرسل الذين قبل رسولنا صلى الله عليه وسلم، وقد كان كل رسول يرسل إلى قومه خاصة، ولهذا يوجد في آن واحد عدد من الرسل كل رسول في بلد، وكل رسول يأتي بشرع، فيكون له دعوة مستقلة، أما رسولنا صلوات الله وسلامه عليه فإنه من خصائصه أنه أرسل إلى الجن والإنس كافة، ولم يشذ شيء عن ذلك، وهذا الذي يجب أن يعتقد.

وكيف وهؤلاء النصارى دينهم الذي يدينون به كفر وضلال وشرك مخالف لما جاء به عيسى عليه السلام مخالفة ظاهرة جلية، وإن زعموا أنهم أتباعه، فهم أتباع الشيطان في الواقع، وهو الذي زين لهم هذا الدين.

فمعنى كلامه أن عيسى ادعيت فيه الربوبية والإلوهية والشركة والبنوة -تعالى الله عن ذلك-، وهذا ينافي كونه عبداً، وإذا كان عبداً لا يكون له شيء من ذلك، ومحمد صلوات الله وسلامه عليه ادعيت فيه مشاركة الله في المعنى، فما أحد قال: إنه ابن الله.

أو: إنه شريك لله جل وعلا في الملك، مثلما تقوله النصارى في عيسى: إنه ثالث ثلاثة.

وقد يقول ذلك بعض الجهال هذا، فيقول: أنا أعبد الله وأعبد محمداً.

ويقول: أنا أتوكل على الله وعلى رسول الله.

كثير من الجهال يقول هذا، وهذا شرك ظاهر جلي واضح.

ولكن المقصود أن كثيراً من العلماء الذين يؤلفون ويكتبون شروحاً للحديث وشروحاً للتفسير وقعوا في المعنى الذي وقعت فيه النصارى؛ حيث غلوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلوه يعلم الغيب، وجعلوه يملك لداعيه النفع ويصرف عنه الضر، وجعلوا الدعوة له، فيدعونه وهم علماء يكتبون للناس ويوجهونهم، ولكنهم دعاة للوثنية في الواقع، ودعاة للشرك، وقد تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون شريكاً لله في شيء، ولذلك قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وإنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا: عبد الله ورسوله)، وقال: (لا يستجرينكم الشيطان) يعني: لا يتخذكم مطايا يجريكم في الباطل فتدخلوا في الشرك من هذا الطريق.

فهذا مقصود المؤلف في قوله: [تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما عبدي الله ورسوله]، وهذا من ناحية العبودية، أما من ناحية الرسالة فإن اليهود -عليهم لعائن الله- أنكروا رسالة عيسى، بل رموه بالبهت هو وأمه مقابلة لقول النصارى: إنه ابن الله أو إنه ثالث ثلاثة.

فقالوا: هو ابن زانية وابن بغي؛ لأنها جاءت به بغير أب.

ولم يصدقوا أنه رسول الله، وهذا يقابل قول النصارى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليه أهل الجفاء والفجور أبوا أن يقروا له بالرسالة، فلا بد من الجمع بين هذين الوصفين لهذين الرسولين، وهما من أولي العزم من الرسل، وهذا أمر معلوم تظافرت عليه النصوص.