للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبب نزول قوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب)]

كذلك لو استهزأ بمن يمتثل الشرع ويعمل به من أجل ذلك، فإنه يكون مرتداً كافراً خارجاً من الدين الإسلامي، والدليل على هذا قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:٦٥ - ٦٦].

وذكر المؤلف أن سبب نزول هذا الآية: أن قوماً قالوا هذه المقالة في غزوة تبوك، وقد كانت في السنة التاسعة، وعوف بن مالك يسمعهم، قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء، والقرآء: هم حفظة القرآن الذين يعرفون معانيه ويعملون به، هذا هو الذي يسمى قارئاً في لسان السلف، أما من يحفظه وهو لا يعرف معانيه فهذا ليس بقارئ، ولم يطلق عليه ذلك إلا لما جُهلت اللغة، وضاعت لغة العرب في لغة العجم واختلطت، وصار الناس لا يعرفون معاني القرآن لهذا السبب.

قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء -يعنون: الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم- أكذب ألسناً وأرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء، والواقع خلاف هذا كله، وإنما قاله من قاله ليضحك به القوم على سبيل المزاح، وهذا هو السخرية؛ لأن المزح واللعب لا يكون محله دين الله ولا شرعه ولا رسله ولا كتبه، وقوله في هذا: (من استهزأ بشيء فيه القرآن أو الرسول) لا يقصد به القرآن خاصةً ولا الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم فقط، بل جميع الرسل وجميع الكتب التي أنزلها الله جل وعلا والشرع الذي أنزله على عباده داخل في ذلك.

أما ذكر الله فيدخل فيه ما ذكر من أسمائه وصفاته وآياته الكونية والشرعية، وكذلك حكمه الكوني القدري الذي يتضمن الخلق، كأن يستهزئ بكون الله جل وعلا خلق الذباب مثلاً، أو بأنه خلق الحيات، أو خلق العقارب المؤذيات، أو ما أشبه ذلك مما قد لا تظهر حكمته لكثير من الناس، أو استهزأ وسخر بأن بعض الناس عقولهم قاصرة ثم يتحصلون على أموال طائلة في الدنيا، وأن غيرهم قد يكونون أعلم منهم ولا يحصل لهم شيء من ذلك، كما يحدث لبعض الزنادقة من الشعراء وغيرهم، فإن هذا من السخرية التي تجعل الإنسان كافراً.

نسأل الله العافية.

وأما الآيات الشرعية فكأن يسخر من سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، كالذي يسخر -مثلاً- من تربية اللحية وهو يعرف أنها سنة، أو يسخر من السواك وهو يعرف أنه سنة، أو يسخر من أي سنة من السنن التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ثبتت في كتاب الله جل وعلا.

وأما السخرية بمن يحمل الدين ويعمل به فإن قصد بسخريته السخرية به في ذاته وليس لتدينه، فهذا له حكم غيره من الاستهزاء بالناس، وهذا من الأمور المحرمة ولا يكون بذلك كافراً.

وكذلك الآيات التي أنزلها ربنا جل وعلا على رسله، كأن يقول مثلاً: وهذه أحكام لا تناسب الوقت الحاضر، لا تناسب التمدن ولا تناسب تقدم الإنسان وحضارته، فإن هذا كفر بالله جل وعلا، وإن كان مسلماً فهو يرتد بذلك، وإن كان كافراً من الأصل فيجب أن يمنع إذا كان عند المسلمين مقدرة على منعه، أو أن يسخر بأن المرأة لا تأخذ من الإرث إلا نصف ما يأخذ الرجل، وهذه أمثلة وإلا فالأمر في هذا واسع.

وأما اللعب فكأن يذكر الأمور على سبيل المزح الغير مقصود، وإنما يقول مزحاً أو يقول كلاماً لا يعرف معناه أو لا يقصد معناه؛ لأن آيات الله ورسول الله وكذلك أسماء الله وصفاته ليست محلاً للعب، بل يجب أن تعظم غاية التعظيم وتحترم وتقدر، ولهذا أمر الله جل وعلا بتقديره وبتعظيمه وكذلك تعظيم شرعه وتعظيم رسله، فهؤلاء الذين نزلت فيهم الآية جاء أن منهم من أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر ويقسم بالله أنه ما أراد حقيقة الكلام ومدلوله، وإنما قال ذلك على سبيل الترويح عن النفس؛ لأن المسافر يتعب فإذا ذكر شيئاً فيه ترويح عن النفس يجد نشاطاً، فهو يقول: أردنا هذا فقط، ومع ذلك لم يلتفت الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يقبل عذره، وصار لا يزيد على قول الله جل وعلا: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:٦٥ - ٦٦].

وقول ابن عمر: (كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن قدميه لتنكب الحجارة)، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ارتحل بعد هذه المقالة، وصار أحدهم ممسكاً بناقة رسول الله، والنسعة: هي الحبل الذي يمسك رحل الناقة من الخلف، وقد يدخل من تحت ذنب الناقة لئلا يسقط الرحل إذا نزلت في منخفض، فهو ممسك به للمبالغة في الاعتذار، والرسول صلى الله عليه وسلم مسرع في سيره، وأرجل هذا الرجل تضرب الحجارة، وهو لا يلتفت إليه ولا يزيد على أن يتلو عليه قول الله الذي أمره أن يقوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:٦٥ - ٦٦] فهو لا يزيد على ما قال الله جل وعلا له، ولم يقبل عذره، ولم يقبل أنه ما كان قاصداً، فدل هذا على أن عدم قصد الحقيقة بالكلام والسخرية واللعب يكون كفراً، وقوله جل وعلا في هذا: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:٦٥] الذي ذكر أنهم قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء! فهم وصفوهم بالقراءة، وبحفظ القرآن، ومن أجل ذلك قالوا لهم هذا القول، وقولهم: (أرغب بطوناً) يعني: أن بطونهم كبيرة واسعة، ومعنى: (أرغب بطوناً) أي: أكبر بطوناً، يأكلون أكلاً كثيراً، وهذا كذب.

(وأكذب ألسناً) الكذب يكون في المنافقين، والصحابة قد وصفهم الله جل وعلا بأنهم صادقون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم.

وقولهم: (أجبن عند اللقاء) الجبن: هو خلق يدعو من اتصف به إلى الهروب عن لقاء العدو؛ خوفاً من القتل، وهذا أيضاً من الكذب، وكونه قولاً على خلاف الواقع ضحك بعضهم منه، فهذا الذي قال الله جل وعلا: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:٦٥] لأن هؤلاء تحلوا بما أمرهم الله جل وعلا، واتصفوا به، فحفظوا القرآن وعملوا به، والقرآن يأمر بالصدق، ويأمر بترك الرغبة في الدنيا، والرغبة في الآخرة، ويأمر بقتال الكفار وأن يكونوا في قتالهم كالبنيان المرصوص لا يتزعزعون، وهم يمتثلون ذلك، فهذا القول صار سخرية؛ لأنه خلاف الواقع وكذب.

وقد جاءت الآثار أنهم قالوا أكثر من هذا، وأن منهم من قال: يرجو هذا الرجل -يقصدون الرسول صلى الله عليه وسلم- أن يهزم الروم أو يقتل الروم، وهم يحسبون قتال الروم كقتال العرب! فكأننا بهم غداً مقرنين في الحبال؛ يقولون هذا جبناً، وكذلك يقولونه حتى يرهبوا المسلمين؛ لأن هذه المقالة لا تصدر إلا من منافق لا يريد الحق، ولا يحبه، ولا يريد انتصاره.

وجاء أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ضلت ناقته فقال قائل منهم: هذا يزعم أنه يخبر عما في السماء وهو لا يدري أين ناقته! وهذه كلها يجوز أن تكون وقعت في وقت واحد، ويجوز أن يكونوا قالوها في أوقات متفرقة ونزلت الآية بها.