للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون)]

قوله جل وعلا: (قُلْ أَبِاللَّهِ) هنا الاستفهام للإنكار، أي: أن الله ليس محلاً للسخرية واللعب، (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ) والآيات سواء كانت آيات كونية أو شرعية، فليست محلاً للعب والسخرية والاستهزاء، و (رسوله) كذلك، فإن من فعل ذلك وإن كان جاهلاً فإنه لا يعذر، ويكون بذلك مرتداً وإن كان جاهلاً؛ لأن هذا ليس محلاً للسخرية والاستهزاء واللعب، وربما يتكلم الإنسان كلمة يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، وهو لا يلقي لها بالاً، ولا يدري ما معناها، كما ثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرجل لا يتكلم بالكلمة من سخط الله يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) وجاء: (إن الرجل ليقول الكلمة ليضحك بها القوم؛ يكتب الله جل وعلا بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه).

وجاء ضد ذلك: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الحق لا يلقي لها بالاً يكتب الله جل وعلا له بها رضاه)، فيجب على الإنسان أن يحفظ لسانه، وأن لا ينطق إلا بالشيء الذي يعرف أنه ينفع.

وقوله جل وعلا: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:٦٦] يدل على عدم قبول العذر في هذه الأمور، والمعتذر هو النادم الذي يظهر التوبة والأسف على ما فرط منه، فيبدي عذراً له أنه ما قصد الحقيقة، ومع هذا منع الله جل وعلا قبول عذره.

وقوله: {قَد كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:٦٦] يدل على بطلان قول من قال: إن هؤلاء الذين قالوا هذا القول منافقون؛ لأن المنافق لم يزل كافراً، وإنما يظهر الإيمان بلسانه، وقول الذين نصروا هذا القول بأن معنى قوله: (كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) أي: أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان بألسنتكم، وهذا لا يصح؛ لأنهم قالوا هذه المقالة فيما بينهم، ولم يزالوا مظهرين ذلك لخواصهم، وبعضهم لبعض، وإنما يدل على أنهم كان عندهم إيمان، ولكن إيمانهم كان ضعيفاً ليس قوياً بحيث يمنعهم أن يقعوا في مثل ما وقعوا فيه؛ لأن المؤمن الإيمان القوي لا يدخل في مثل هذا؛ لأن هذا ليس محلاً للخوض واللعب، وإنما هذا محله التعظيم والتقدير والعمل والإيمان.

وقوله جل وعلا: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:٦٦] الطائفة يصح أن تقع حتى على الرجل الواحد، فيصح أن يقال للواحد: طائفة.

وقد جاء أن اثنين منهم جاءوا يعتذرون ويقولون: إننا لم نتكلم وإنما حضرنا، وقد أنكر من أنكر منهم وقال: ووددت أننا نقاضى على كل كلمة نتكلمها كل واحد منا يضرب مائة سوط وأن لا ينزل فينا القرآن.

وجاء عن رجل يقال له: مخشي بن حمير أنه هو الذي كان يعتذر، ومع ذلك لم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم عذره، وكان يقول: إني أسمع آيةً تتلى في كتاب الله أنا المعني بها تقشعر منها الجلود، وكان يسأل ربه ويقول: اللهم اجعل موتي قتلاً في سبيلك حتى لا يقول قائل: أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت.

وذكروا أنه لما كان يوم اليمامة تتبعوا القتلى الذين قتلوا من الصحابة فوجدوهم إلا هذا الرجل لم يعثر له على أثر وجثة، ولعل هذا هو الذي أراده جل وعلا بقوله: (نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ) أي: أن الله عفا عنه.

وقوله: (نُعَذِّبْ طَائِفَةً) يعني: أن هؤلاء يصيبهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة، أما عذاب الآخرة فهو بعد الحياة عند الموت.

وقوله: (بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) الإجرام: هو ارتكاب الجرم والذنب العظيم، وهذا من أعظم الذنوب: الاستهزاء والسخرية واللعب بآيات الله، أو بشيء فيه ذكر الله، أو شيء فيه دين الله وشرعه، وهذا في الواقع قد يكون باللسان، وقد يكون بالفعل، وقد يكون بالقلب نفسه، وقد يشتمل على أمور تكون مكفرة ومخرجة من الدين الإسلامي؛ كعدم الاقتناع بالدين، وأنه دين باطل، وأن غيره أحسن منه؛ لأنه حكم بكذا وأمر بكذا ونهى عن كذا ولو لم ينطق بذلك، إذا كان هذا في قلبه فإنه يكفيه في الهلاك أنه داخل في ذلك، وإنما الواجب على العبد أن ينقاد لتعظيم شرع الله، ويمتثل له، ويكون مستسلماً خاضعاً لربه جل وعلا، معظماً لأمره، مجتنباً لنهيه، وأن يحذر أشد الحذر أن يقع في شيء مما يذهب بدينه، ويكون سبباً لهلاكه.

وفي هذه القصة مع الآية دليل على أن الجاهل لا يعذر بجهله في كل شيء، وإنما العذر في بعض الأمور، بل يجب عليه أن يتعلم ويعمل، فإن قصر في ذلك فهو الملوم.