للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سلام الله على عباده في الجنة لا في موقف الحساب]

قال الشارح: [وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة المكتوبة يستغفر ثلاثاً ويقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام!)، وفي الحديث: (إن هذا هو تحية أهل الجنة لربهم تبارك وتعالى)، وفي التنزيل ما يدل على أن الرب تبارك وتعالى يسلم عليهم في الجنة، كما قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:٥٨]].

هذا جاء مكرراً في القرآن في آيتين من كتاب الله جل وعلا: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:٤٤]، ولقاء الله جل وعلا يكون في الموقف بين عباده، ولكن الموقف مكان محاسبة، وليس مكان إكرام.

ولهذا لما سئل ابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ أي: مناجاة الله لعبده.

وهذا شيء عظيم جداً، كونه يناجيه جل وعلا، وهذه لا تقاس بما يعرفه الإنسان؛ لأن نجواه تكون لعباده كلهم في آن واحد، كل واحد يتصور أنه لا يكلم إلا هو، وهو يكلم جميع المؤمنين في ذلك الموقف.

يقول ابن عمر: (سمعته يقول: يدني عبده المؤمن فيضع عليه كنفه)، والكنف هو: الستر، يستره عن الذين يشاهدونه في الموقف، لأنه يقرره بذنوبه، ولا يوجد أحد يخلو من الذنوب أبداً.

فإذا قال: (فعلت كذا يوم كذا وكذا)، وتركت كذا من الأمور الواجبة، عندها يخجل كثيراً فيتغير وجهه، فلأجل هذا ستره الله، حتى لا يراه المؤمنون ويقولون: إنه قد هلك.

قال: (فإذا رأى أنه قد هلك؛ قال الله له: أنا سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم)، فيعطى كتابه بيمينه فيصبح فرحه فوق ما يتصور، حتى يصبح يمد كتابه أمام الناس ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:١٩] يعني: يا هؤلاء! اقرءوا كتابي، كأنه لا يهمهم إلا قراءة كتابه، فالفرح استولى عليه، وكان أولاً يظن أنه قد هلك.

فالمقصود أن الموقف وإن كان فيه الكلام، وإن كان فيه اللقاء، فكلام الله جل وعلا في الموقف هو محل مناقشة ومحل مسائلة، فقد يكون الإنسان عنده مواقف حرجة جداً، حتى يرى أنه قد هلك، فإذا أوتي كتابه بيمينه بدأت السعادة تظهر عليه، أما التحية واللقاء فلا تكون إلا في الجنة.

ولهذا لما قيل للإمام أحمد: متى يأمن المؤمن؟ قال: يأمن إذا وضع أول قدم له في الجنة.

أما قبل هذا فلا يأمن؛ لأن النار أمامه، فالنار بين الناس الواقفين وبين الجنة، فلا يوجد عبور على الجنة، ولهذا يقول الله جل وعلا: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:٧١]، قوله: (وإن) تفيد القسم وأن كل واحد سيرد.

وورود الشيء لا يلزم منه الدخول، فقد يرد عليه ولا يدخله وقد يدخله.

فالسلام الذي يكون من رب العالمين لعباده يكون في الجنة.