للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أدلة إثبات صفة الوجه لله تعالى]

في هذا الحديث دليل على إثبات صفة الوجه حقيقة.

إذاً: تبين لنا الفرق بين هذا الباب والذي قبله، الذي قبله يسأل بالله، وهنا يسأل بوجه الله، فدل هذا على أن الوجه غير الذات، لا كما يقول أهل الباطل، وقد تضافرت النصوص في ذكر وجه الله جل وعلا، وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال في بعض أدعيته: (أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم)، ومعنى ذلك أن أعظم لذة: النظر إليه.

وقد جاء تفسير قول الله جل وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦] في صحيح مسلم من حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله جل وعلا)، وفي الآية الأخرى، لما ذكر الله أن جهنم يلقى فيها الناس وهي تقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:٣٠]؛ أخبر أن الجنة تقرب للمتقين الذين يخشون الرحمن، ثم قال: (ولدينا مزيد)، والمزيد فسر بأنه النظر إلى وجه الله جل وعلا، وكثيراً ما يأتي في القرآن ذكر هذه الصفة كقوله جل وعلا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧]، ولو كان معنى الآية مثلما يقول البيهقي أنه الذات ما صح أن ينعت الوجه بهذه الصفات فيقال: ذو؛ لأن المضاف يكون مجروراً، ولهذا لما ذكر الذات في آخر السورة قال: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٧٨]، فدل على أن الوجه غير الذات.

كذلك قوله جل وعلا: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:٩]، وكذلك قوله جل وعلا: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:١١٥] في آيات كثيرة، وكذلك الأحاديث.

ومعلوم أنه لا يقال للإنسان: فلان وجه، ولا يقال ليده: وجه، ولا لرجله وجه، هذا ما يجوز أن يقال في اللغة، فهذا يبطل قول المتأولة وأهل الباطل.

والواجب علينا إثبات ما أثبته الله جل وعلا لنفسه من الأسماء والصفات إثباتاً يليق بعظمته وجلاله، ومن ذلك الوجه.

وقول الله جل وعلا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧] ليس معنى ذلك: أن الرب جل وعلا يفنى، وأنه ما يبقى إلا وجهه تعالى وتقدس، ولكن يذكر أشرف شيء وبقية الصفات تبع له، وهذا مثل قوله جل وعلا في الآية الأخرى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:٨٨]، تعالى الله وتقدس.

وإن كان هذا فيه بعض الكلام لبعض العلماء، فإن البخاري رحمه الله يقول في صحيحه: (كل شيء هالك إلا وجهه) أي: ما أريد به وجهه، ولكن هذا من لازم المعنى، وليس هو المعنى الذي تنص عليه الآية، ومقصوده أن كل عمل يبطل إذا لم يرد به وجه الله، أما الذي أريد به وجه الله فهو الذي ينفع ويبقى لصاحبه، فهو ينبه بذلك على وجوب الإخلاص، ووجوب العمل لله جل وعلا.

فالآية لا تدل على أن شيئاً من الرب جل وعلا يفنى -تعالى الله وتقدس- وأنه لا يبقى إلا وجهه؛ لأنه إذا عبر عن الشيء بأشرف ما فيه فالبقية تكون تبعاً له، وهذا هو المقصود.