للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[باب ما جاء في اللو]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في اللو.

وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:١٥٤]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:١٦٨]].

من المعلوم أن الطريق إلى الله جل وعلا ليس إلا بإتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يصل الإنسان إلى السعادة الأخروية إلا إذا سلك الطريق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن والحديث الذي كان يقوله ويبلغه الأمة من أن الله تعالى موصوف بالصفات العلى، موصوف بأنه سميع عليم بصير، وبأنه حي قادر مريد، وبأنه يتكلم جل وعلا ويفعل ما يشاء، وبأن له وجهاً كريماً جل وعلا، وبأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وأنه جل وعلا هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وأنه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء.

وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أو قاله الله جل وعلا يجب أن يعتقد على ظاهره، ولا يجوز أن يُؤَوَّل وتطلب له الوجوه البعيدة الغريبة التي تخرج الكلام عن ظاهره، كما يفعله أهل الكلام الذين ابتلوا بالفلسفات وبالكلام الذي لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولهذا كان الأئمة، مثل: سفيان بن عيينة وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه وغيرهم رحمهم الله يقولون: من اعتقد في مثل قول الله جل وعلا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] غير ما في قلوب عوام المسلمين فإنه ضال.

ومقصودهم بهذا أن القرآن على ظاهره، أن الله خاطبنا بخطاب واضح جلي لا نحتاج معه إلى أن نبحث عن فلسفات وأمور بعيدة على اللغة، وذلك أن الله جل وعلا يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:٦٧]، فهذا أمر من الله جل وعلا للرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ المنزل إليه إلى الأمة، ولا شك أنه بلغ، ولم يبلغنا التأويل الذي يقوله هؤلاء المتكلمون، وهذا يدل على أنه باطل؛ إذ لو كان من الحق لبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومعلوم أن الله جل وعلا إذا قال لنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:٨٨] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:٢٧] وما أشبه ذلك من الآيات أن ظاهر هذه الآيات أن له سبحانه وتعالى وجهاً يليق بجلاله، على حد قوله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، وقوله جل وعلا: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:٤]، وقوله جل وعلا: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:٢٢]، وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:٦٥]، وما أشبه ذلك من الآيات التي تدل على تفرده جل وعلا بالكمال وبما يتصف به، وأن المخلوق لا يشاركه جل وعلا في صفاته أو أفعاله.

فإذا أخبرنا أن له يداً وأن له رجلاً جل وعلا، وأنه يضع رجله في جهنم حتى ينزوي بعضها إلى بعض وتتضايق على أهلها، إذا أخبرنا بذلك وجب قبول هذا والإيمان به على ما يليق بعظمة الله جل وعلا، وكذلك إذا أخبرنا أن له وجهاً.

أما التأويل الباطل مثل قولهم: الوجه المقصود به الذات فهو باطل، ولا يقال في اللغة العربية: (اثنان وجه)، أو: (يد فلان وجه) أو (رجل فلان وجه)؛ فإن هذا لا يفهم ولا يأتي لغة ولا شرعاً.

إذاً هو باطل، ولو أن أمامنا رجلين أحدهما أخذ بظاهر القرآن وبظاهر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والآخر لم يأخذ بذلك بل قال: هذا الظاهر يدل على التشبيه ولا يجوز أن نأخذ به، ويجب أن نؤوله حتى لا نقع في ظاهر التشبيه ومضيا على هذا السبيل، ثم وقفا أمام الله وحاسبهما، فقال الأول: يا رب! سمعتك تقول كذا وكذا فاعتقدت ذلك، وسمعت رسولك صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا فاعتقدت ذلك.

والآخر يقول: ظننت أن هذا هو الحق، واعتقدت أن ظاهر خطابك وخطاب رسولك أنه غير مراد فأيهما أولى بالنجاة؟ لا شك أن الأول هو أولى بالنجاة؛ لأنه اعتصم بقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يقال في جميع الصفات؛ لأن باب الصفات واحد، فهو باب إثبات ونفي المشابهة -مشابهة المخلوقين- وليس باب تأويل، ومن كان سالكاً هذا المسلك -التأويل- فإنه على خطر عظيم بغير شك، بل لا نشك أنه ضال في ذلك، وأمره إلى الله جل وعلا هو الذي يتولى حسابه؛ لأنه هو الذي يتولى حساب عباده جل وعلا.

يقول: [باب ما جاء في اللو] (اللو) هنا أصلها (لو)، فأدخلت (أل) عليها، وإدخال (أل) عليها لا يفيد المعرفة؛ لأن (لو) حرف وضع لمعنى كما هو معلوم، و (أل) قد تدخل على المعرف ولا تزيده تعريفاً، كما يقول الشاعر: رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً شديداً بأعباء الخلافة كاهله فأدخل (أل) على يزيد ولم تزده تعريفاً، ولكنها قد تدخل في اللغة على المعرف ويبقى على ما هو عليه.

ومقصوده بهذا ما جاء من النهي والوعيد لمن قال: (لو) معترضاً بذلك على قدر الله جل وعلا.

أي: إذا وقع في أمر من الأمور يعترض ويقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولو أني ما فعلت كذا ما كان كذا وكذا.

و (لو) في مثل هذا المعنى فيها محاذير عدة، سواء قصد بها الاعتراض على المقدر أو قصد بها الاعتراض على الأمر والنهي، والأمر والنهي هما متلازمان، فأمر الله جل وعلا وشرعه يجب أن ويمتثل كما يجب أن يجتنب نهيه.

والذي جاء فيها هو الاعتراض على المقدر، ولكن (لو) قد تأتي في أمور مستقبلة تدل على أن المتكلم بها يريد أن يفعل كذا وكذا فلا تكون داخلة في النهي، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة).

فهذا يدل على أنه في المستقبل الذي سيقع سيفعل كذا وكذا، ولا يدل ذلك على أنه يعترض على الواقع، وكذلك قوله: (لو كنت راجماً أحداً بلا بينة لرجمت هذه) يقصد امرأة معينة، وما أشبه ذلك كثير مما جاء في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه تدل على أنه لو تبين له في المستقبل الأمر على هذا النهج أنه يفعل كذا وكذا، فهو يخبر عن عقيدته وعن فعله الذي سيفعله إذا صار ذلك، وهذا ليس فيه اعتراض على القدر.