للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح قوله تعالى: (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا)]

[قال المصنف رحمه الله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:١٦٨]].

وهذا في نفس سياق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:١٥٦]: يعني لو أطاعونا في مشورتنا لهم بأن لا يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حصل لهم القتل.

وقد أخبر الله جل وعلا في الآية التي قبلها أنهم لو كانوا في بروج مشيدة وكانوا في بيوتهم وفي حصونهم لبرز الذي كتب عليهم إلى مضاجعهم، فلابد أن يأتي شيء يبرزهم إلى ذلك؛ لأن الله كتب قبل خلق السموات والأرض أنهم سيقتلون في هذا المكان، فلابد أن تتهيأ الأسباب إلى إخراجهم إلى المضاجع التي سقطوا فيها قتلى.

فهذا نفس السياق السابق، فهذا شأن المنافقين التحسر على ما وقع، وظنهم أنهم يستطيعون أن يغيروا من الواقع بالتدابير التي يتخذونها، وهذا كذب واعتراض على أقدار الله.

وقد جاء في تفسير ابن أبي حاتم بسنده، وكذلك في تفسير ابن إسحاق عن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال: (ألقى الله جل وعلا علينا النعاس بعدما وقعت الواقعة).

والنعاس في مواطن القتال علامة النصر وعلامة الإيمان، ولهذا قال الله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران:١٥٤] ليسوا كلهم: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:١٥٤]، هؤلاء هم المنافقون، وهم أخور الناس وأخوفهم، فلشدة الخوف والخور لا يأتيهم النعاس، بخلاف أهل الإيمان فإنه يلقى عليهم النعاس، وهذا علامة النصر وعلامة الظفر في مواطن القتال، والنعاس عند الصلاة علامة استحواذ الشيطان على الإنسان.

يقول عبد الله بن الزبير عن أبيه: ألقي عليّ النعاس حتى صار سيفي يسقط من يدي فآخذه، بينما أنا كذلك إذ سمعت معتب بن قشير كأنه حلم يقول: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:١٥٤]، وهذا وإن كان قاله فرد فمؤكد أنه قول طائفة المنافقين أجمع؛ لأنهم كلهم على هذا النحو.

فهم الذين قالوا لإخوانهم: لو أطاعونا ما قتلوا.

والمقصود بالإخوان هنا إما إخوان النسب وليس إخوان الدين؛ لأن المنافقين ليسوا إخواناً للمؤمنين إلا في الظاهر، أو يكون المقصود الظاهر؛ لأنهم يشاركونهم بالأعمال الظاهرة من الصلاة ومن الجهاد وغيرها من أمور الإسلام ولكنهم في الباطن ليسوا إخواناً لهم، فإما أن يقصد به الظاهر أو يقصد به إخوان النسب؛ لأنه معلوم أن الأنصار في القبيلة الواحدة بل البيت الواحد فيه مؤمنون خلص من أفضل المؤمنين، وفيه منافقون.

والنفاق ما كان إلا في المدينة، ولم يكن النفاق إلا بعد وقعة بدر، وقبل ذلك لم يكن هناك نفاق؛ لأن الأمر فيه واضح إما كفر وإما إيمان، والنفاق لا يكون إلا إذا اشتد الإسلام وظهر وصار له قوة وسلطة، عندها يحدث النفاق فيوافقون في الظاهر وهم مخالفون في الباطن، فهؤلاء هم الذين قالوا هذه المقالة أيضاً، {قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا} [آل عمران:١٦٨] يعني: تخلفوا {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:١٦٨] يعني: أطاعونا بعدم الخروج.

وهذا اعتراض على القدر وتأسف على الواقع وحزن عليه، فهم يظنون لو أنهم امتثلوا مشورتهم ما حصل لهم ما حصل، وهذا خلاف الإيمان بالقدر؛ لأن القدر الذي وقع وكتب لابد من نفاذه، ويقال في هذه الآية ما قيل في الآية السابقة تماماً.