للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث: (المؤمن القوي خير وأحب)]

وقوله: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) المقصود بالقوي هنا: القوي في إرادته ودينه وقوة الإيمان لا تستلزم قوة البدن، بل قد يكون الإنسان ضعيف البدن وإيمانه مثل الجبل وعزيمته أقوى من الحجر، وهذا الذي يحبه الله جل وعلا.

فالله جل وعلا قوي يحب القوي من المؤمنين، وهو جميل يحب الجمال، وهو كريم يحب الكرماء، وهو رحيم يحب الرحماء، والمؤمن القوي في أمر الله وفي دينه وفي عزيمته يحبه الله جل وعلا، وهو خير من المؤمن الضعيف.

وهنا كلمة (خير) تفضيل، والجانب الثاني يكون فيه خير، والمؤمن الضعيف فيه خير ولكن المؤمن القوي أفضل منه، ومحبة الله له أفضل من عمله الذي يعمله وأعظم؛ لأن أسباب المحبة هي قوة الإيمان لموافقة أمر الله جل وعلا والامتناع عن نهيه بقوة وعزيمة، هذه هي التي سببت له محبة ربه جل وعلا، فالله يحبه أكثر من المؤمن الضعيف؛ لأن الضعيف قد تغلبه شهوته فيواقع المعصية، وقد تكون إرادته في فعل الفرائض ضعيفة فيترك بعضها، أو يقصر فيها فيحصل له الضعف من نواحي الترك والفعل.

ومعلوم أن الله جل وعلا علام الغيوب، ويعلم أن هذا العبد القوي والضعيف سيفعل كذا قبل وجوده، ولكن هذا فضل الله يضعه حيث يشاء، فهو أعلم حيث يضع الفضل، كما قال جل وعلا: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:١٢٤]، فيضع فضله في المكان اللائق به، ويمنع فضله المكان الذي لا يليق أن يوضع الفضل فيه، والفضل يتفاوت كما في هذا الحديث، وبعض المؤمنين يكونون أحب إلى الله وهم يتفاوتون، وكلما كان إيمان العبد أكمل فمحبة الله له أكثر وأتم.

(وفي كل خير) يعني أن المؤمنين على خير، إلا أنهم يتفاوتون هذا التفاوت العظيم في المحبة وكذلك في الجزاء.

ولهذا عرف أن الجنة درجات بعضها فوق بعض، وما بين درجة والأخرى مثلما بين السماء والأرض، وكون الذي يكون في الأعلى يكون بقوة الإيمان وبكثرة العمل الذي يعمله، وفرق بين من يكون في أدنى درجات الجنة ومن يكون في أعلاها عظيم جداً، فالفرق في الجزاء مرتب على الفرق في القوة في الإيمان والعمل.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك) أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم بالحرص يكون بأمرين: أحدهما: هو بذل الوسع والجهد والطاقة على الفعل.

الثاني: أن يكون الحرص في الفعل النافع.

فإذا وجدا هذان الأمران فمعنى ذلك أن هذا عنوان السعادة للإنسان، فيكون حريصاً ويكون حرصه على ما ينفع، ومعلوم أن النفع المقصود به نفع الآخرة والنفع في الدين، أما الدنيا فإن الله يعطيها من يحب ومن لا يحب؛ لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، أما الدين فلا يعطيه الله جل وعلا إلا من يحبه.

فالمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالحرص، والحرص هو بذل الوسع والجهد في العمل، والإنسان يحرص أن يكون حرصه على النافع، ثم يضاف إلى هذين الأمرين الاستعانة بالله جل وعلا، فيفعل السبب ويكون جاداً في ذلك حريصاً عليه مستعيناً بالله.

قوله: (واستعن بالله) وهذا يكون بتمام العبادة، وصاحبه متحلٍ بقوله جل وعلا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥].

فحرصه على ما ينفع عبادة، والاستعانة بالله جل وعلا على حصول ذلك عبادة، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: إن هذا الحديث من أنفع ما ينبغي أن يتحلى به الإنسان ويعرف معناه.

وقوله: (ولا تعجزن) العجز ضد الحرص.

يعني: أن يكسل ويترك العمل لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فلا يكلف الإنسان شيئاً لا يطيقه، ولكن لا يترك الشيء الذي يطيقه ويستطيعه، فإن تركه فهو عاجز، فالذي ترك الشيء الذي يستطيع فعله من الطاعات عاجز.

أي: أخلد إلى الأرض واتبع هواه، وترك ما ينبغي له أن يفعله، وهذا هو العجز.

(ولا تعجزن) والنون هنا مؤكدة، فهي تأكيدٌ للفعل المضارع، فيؤكد ليهتم الإنسان بذلك ويبتعد عن العجز.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فإن أصابك شيء) يعني: إذا حرصت على النافع واستعنت بالله فلم يحصل لك مرادك فلا تقل: (لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَّر الله وما شاء فعل).

ويجوز أن تقول بالتخفيف (قدر الله) بالإضافة.

يعني: هذا الذي وقع هو قدر الله الذي قدره.

ويجوز أن تقول: (قدّر الله وما شاء فعل)، و (قدّر): يعني: هذا الذي وقع قدّره الله.

والله يفعل ما يشاء تعالى وتقدس، فيسلم الإنسان وينقاد لربه، ويعلم أن عمله الذي عمله لا يؤثر في الواقع في شيء، ولكن الإنسان يؤمر بالحرص والعمل؛ لأنه لا يدري ماذا سيقع، وعند وقوع الشيء فإنه ينقاد لربه ويؤمن بقدره، ويؤمن بأن هذا لا يمكن أن يتغير أو يتبدل، فالأقدار مقدرة غير معلومة، والإنسان مأمور بالطاعة والحرص على ذلك.

وأما الذين يحتجون بالقدر فهم في الواقع يغالطون أنفسهم ويخالفون قدر الله وشرعه، فمثلاً: إذا قلت لإنسان صلِّ يقول: لا.

كتب الله علي ألا أصلي.

فهذا كذب، وفعله كذب ومغالطة، فهل اطلعت على اللوح المحفوظ وعلمت أن الله كتب عليك أنك لا تصلي؟ أو أنك تريد أنك تبرر لفعلك، وتبرر ما أنت عليه فتحتج بالقدر وتجعل اللوم على القدر وتجعل نفسك ليست ملومة؟! هذا هو الواقع، وهذا القول أسوء من الفعل -نسأل الله العافية-؛ لأن العبد إذا وقع في معصية يجب أن يستغفر ويتوب ويقول: أستغفر الله وأتوب إليه، ولا يقل: إني مكتوب علي كذا.

فإذا قاله فمعناه أنه يقول: أنا راضٍ بما أنا فيه ولن أغير مما أنا فيه.

وهذا هو الواقع هو الحقيقة، فيجعل اللوم على القدر وهو بريء من ذلك، وكفى بهذا اعتراضاً على الله جل وعلا وعدم امتثال لأمره؛ فإن الله لم يأمر العباد إلا بالشيء الذي يستطيعونه، والشيء الذي يستطيعونه ليس بضيق وبكلفة، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وتعالى وتقدس.

فالواجب على العبد أن يكون عبداً لله جل وعلا ممتثلاً لأمره؛ فإن وقع في شيء لا يرضاه من مصيبة أو ما أشبه ذلك فعليه أن يسلم لقضاء الله الذي قضى، ويؤمن بذلك، ويعلم أنه مكتوب عليه وأنه لا يمكن تغييره، ولهذا ثبت في الصحيحين أن موسى عليه السلام قال لربه: (يا رب! أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة فأراه الله جل وعلا آدم، فقال له موسى: أنت أدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟)، وفي رواية: (لماذا خيبتنا ونفسك أخرجتنا من الجنة؟) فقال له آدم عليه السلام: (أنت موسى الذي كلمك الله بلا واسطة، وكتب لك التوراة بيده، واصطفاك على الناس بكلامه، فقبل كم وجدت في التوراة مكتوباً قبل أن أخلق: (فعصى آدم ربه فغوى)، فقال موسى: وجدت أن هذا كتب قبل أن تخلق بأربعين سنة) يعني: هذا مكتوب في التوراة وليس هو في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق بأربعين سنة، فقال: (أتلومني على شيء كتب علي قبل أن أخلق؟! فحج آدم موسى) قالها ثلاثاً، يعني: غلبه في الحجة ومعنى ذلك أن موسى عليه السلام لام آدم على المصيبة التي وقعت له وهو ليس بذنب؛ لأن الذنب قد علم موسى أنه تاب منه وتاب الله عليه، والتائب من الذنب لا يجوز أن يلام عليه، والإنسان إذا وقع في ذنب وتاب منه فلا يجوز أن تأتي إليه وتقول: أنت وقعت في كذا وكذا.

فهذا حرام، وموسى أعلم بالله وأتقى من أن يلوم آدم على ذنب قد أخبر الله جل وعلا أنه تاب عليه؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب عليه، ولكن اللوم على المصيبة والأثر الذي هو الخروج من الجنة، ولهذا قال: (أخرجتنا ونفسك من الجنة)، والخروج مصيبة، ولو كنا في الجنة ما حصل ما يحصل الآن، أعني كون أكثر الناس كفاراً، وكون أشياء كثيرة تحدث، فأخبر أن هذا الشيء مكتوب لا يمكن تغييره ولابد منه، ولهذا غلبه في الحجة، فالشيء الذي يقع للإنسان أمر مقدر عليه يجب أن يسلم ويرضى؛ فإنه لا حيلة له فيه، فما أمامه إلا أن يقول: (قدر الله وما شاء فعل)، أما إذا كان له فيه حيلة مثل المعصية فيجب أن يتوب ويستغفر ويقلع عن الذنب، أما إذا وقع في ذنب يمكن استدراكه ويقول: (هذا قدر الله) ويستمر عليه فهذا لا يجوز، وعليه أن يستدرك ما يستطيع، أما أن يتعذر بالقدر فلا، ولهذا يقول العلماء: الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب والمعائب هي الذنوب، ويجب على العبد أن يتوب ويستغفر، والمصيبة التي تقع يجوز أن يقول فيها: الحمد لله، هذا قدر الله، وأنا راضٍ بقدر الله فيتسلى بذلك، كما قال آدم عليه السلام: (أتلومني على شيء كتب علي قبل أن أخلق).

فإن فإن وقع الشيء الذي لا تريده وحصل خلاف ما تريد فلا تقل: (لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا.

ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان) يعني: قولك (لو) لا يأتي بخير، وإنما يفتح عمل الشيطان من الأسى والتأسف والحزن والاعتراض على القدر، وعمل الشيطان كله شر يقود الإنسان إلى ما هو شر، ولهذا يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم للنافع وينهى عما فيه افتتاح عمل للشيطان، وهو أنه إذا وقع في مصيبة فإن كانت المصيبة يمكن استدراكها وتمكن الحيلة فيها والإقلاع عنها إذا كانت ذنباً بالاستغفار فهذا واجب العبد أن يستغفر ويتوب ويقلع عن الذنب، أما إذا كانت مصيبة في ماله أو في نفسه بمرض أو في ولده أو في قريبه أو ما أشبه ذلك فله أن يقول: هذا قدر الله، وأنا راضٍ بقدر الله، والحمد لله رب العالمين.

وهذا هو شأن العبد المؤمن.