للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العمل بالأسباب لا ينافي القدر ولا يصادمه]

[وأخرج البيهقي عن أنس أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل يسقط سيفي وآخذه ويسقط وآخذه.

قال: والطائفة الأخرى -المنافقون- ليس لها هم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحق: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:١٥٤]، إنما هم أهل ريب وشك بالله عز وجل.

قوله: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران:١٥٤] يعني: لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:١٥٤].

قال شيخ الإسلام رحمه الله لما ذكر ما وقع من عبد الله بن أبي في غزوة أحد قال: فلما انخذل يوم أحد وقال: يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان -أو كما قال- انخذل معه خلق كثير كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك، فأولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان هو الضوء الذي ضرب الله به المثل، فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق لماتوا على الإسلام ولم يكونوا من المؤمنين حقاً الذين امتحنوا فثبتوا على المحنة، ولا من المنافقين حقاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم إذا ابتلوا بالمحنة التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيراً وينافق كثير منهم، ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالباً، وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة، وإذا كانت العافية أو كان المسلمين ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين وهم مؤمنون بالرسل باطناً وظاهراً، لكنه إيمان لا يثبت على المحنة، ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم، وهؤلاء من الذين قالوا: آمنا فقيل لهم: {لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:١٤] أي: الإيمان المطلق الذي أهله هم مؤمنون حقاً؛ فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله تعالى كما دل عليه الكتاب والسنة، فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب.

انتهى.

قوله: وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا ما فيه عبرة.

قلت: ونحن كذلك رأينا من ذلك ما فيه عبرة عند غلبة العدو من إعانتهم العدو على المسلمين، والطعن في الدين، وإظهار العداوة والشماتة، وبذل الجهد في إطفاء نور الإسلام وذهاب أهله، وغير ذلك مما يطول ذكره والله المستعان.

قوله: في الصحيح -أي صحيح مسلم - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (احرص) الحديث].

قوله: (باب ما جاء في اللو) المقصود الاعتراض على القدر أو الاعتراض على الشرع، أما الاعتراض على القدر فيكون بعد وقوع الشيء، ينظر إلى الأسباب وإلى الأمور التي يفكر أنه يمكن أن يفعلها، فينجو من ذلك فيقول: لو أني فعلت كذا ما صار كذا وكذا.

وفي نفسه عند هذا القول من الضيق والحرج والأسى والسخط لما وقع فيه، فهو غير راضٍ بما وقع، ويرى أنه يمكن أن يغير، وهذا كله من الكفر بالله جل وعلا.

أما الاعتراض على الشرع فمثله ما ثبت عن أبي عن عبد الله بن أبي رئيس المنافقين حينما قام يخاطب أصحابه في أحد ويقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان فلهذا حصل ما حصل! فهو يعتمد على ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وما أمر به، ويرى أنه غير حكيم وغير رأي حازم كما هو شأن المنافقين في كل وقت، والآية فيها أن الله جل وعلا قسم الناس إلى قسمين: قسم أنزل عليهم النعاس في مصافهم أمام العدو، ونزول النعاس في موطن الخوف والحرب دليل النصر ودليل الإيمان، لهذا قال الله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران:١٥٤] يغشى طائفة وليس كلهم.

هذا قسم، وهؤلاء هم أهل الإيمان الخُلَّص الذين تبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علم ويقين وبصيرة، وعلموا أنه لا يقع إلا ما قدره الله جل وعلا، وهم راضون بما قدر الله، وإنما إذا وقع ما يرون أنه مصيبة يقولون: (إنا لله وإنا إليه راجعون) فيزدادون بذلك إيماناً.

أما القسم الثاني فهو ما ذكر في قوله: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران:١٥٤] يعني: ليس لهم هم إلا حياتهم، يخافون الموت ويخافون أن يقتلوا، أما أمر الدين ونصره فهذا لا يهمهم، وإنما همهم كله خوفهم على أنفسهم، ولهذا وصفوا بالجبن لأنهم يخافون أن يقتلوا، ووصفوا بالخذلان لأنهم خذلوا المسلمين في المواطن، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في أحد، فإنه رجع بثلث الجيش، وهؤلاء الذين رجعوا ليسوا كلهم منافقين ولكن عندهم ضعف إيمان، وأما المنافق الخالص فهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان، ولا يخاطب بمثل هذا {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} [آل عمران:١٥٤]، وسيأتي الكلام على ظنهم هذا وهو ظن الجاهلية: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:١٥٤] أي: لو جعل لنا التصرف وأخذ برأينا وامتثل قولنا ما حصل ما حصل.

وهذا واضح في أنه اعتراض على ما قدره الله، أي: أنهم يقولون: يمكن أن يتغير ما وقع، ولو أخذ برأينا ما وقع القتل.

مع أن هذا شيء قد كتبه الله جل وعلا قبل خلق السموات والأرض ولا يمكن تغييره، فكل ما يقع من دقيق أو جليل فهو بإذن الله بإرادته وبتقديره السابق، والأمور التي يرى أنها أسباب لا تؤثر في ذلك، وإنما يعتقد هذا من لا يؤمن بقدر الله جل وعلا ولا يؤمن بأسماء الله وصفاته؛ لأن من أسمائه وصفاته جل وعلا (العليم الخبير) الذي خلق كل شيء وقدره تقديراً، فلا يقع شيء إلا عن خلقه وتقديره، وقد كتب ذلك في كتاب تأكيداً لهذا، وإلا فالله جل وعلا لا ينسى ولا يخفى عليه شيء، فقول هؤلاء: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:١٥٤] يعنون به: ما قتل من قتل من قومنا ومن إخواننا لأن المقتول لا يقول: ما قتلت.

ولكن عبروا عن قتل إخوانهم بأنه كقتل أنفسهم، وقد علم أن هؤلاء يقولون ذلك غير راضين به، بل ساخطين بما صار وآسفين عليه، ومتضايقين منه أشد الضيق، وهم مع ذلك يعتقدون أنه يمكن أن يتغير، ولو أخذ برأيهم ما وقع ذلك.

فهذا المقصود من المنع من قول (لو) أنها إذا كانت بالاعتراض على قدر الله جل وعلا وعدم الرضا بما وقع، فإن هذا لا يجوز أن يقع من المسلم، أو كان المقصود الاعتراض على تدبير الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره ونهيه وشرعه الذي شرعه الله له، وأنه غير حكيم، وأن غيره يمكن أن يكون أحسن منه، فهذا اعتراض على الله وهو من الكفر بالله جل وعلا، كما أن الأول أيضاً عدم رضا بتقدير الله وكذلك عدم إيمان به وأنه لم يقدر ولم يقع عن كتابة وعلم سابق ويمكن أن يغير.

أما إذا جاءت (لو) في ذكر شيء يعتقد الإنسان في المستقبل أنه سيفعله، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة)، وكقوله صلى الله عليه وسلم (لو كنت راجماً أحداً بلا بينة لرجمت هذه) لامرأة معينة حصلت الملاعنة بينها وبين زوجها، فلما جاءت بالولد فإذا هو على صفة الرجل الذي رمي بها على نعته شبيهاً به، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجماً أحداً بلا بينة لرجمت هذه) أي أن في ذلك يظهر صدق زوجها، ولكن اللعان يمنع من إقامة الحد كما هو معلوم، وكذلك ما جاء من أقواله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كما ذكره البخاري في صحيحه، فإنه ذكر جملة من قول (لو) التي تدل على جواز ذلك وليست من هذا الباب، ولهذا نقول: إن الممنوع أن يقولها الإنسان على سبيل التسخط للواقع وأنه يمكن تغييره بأسباب، فإذا قالها على هذا الوجه فهذا ممنوع، وهو قدح في التوحيد؛ بل قد يكون منافياً له، يقولها أيضاً على وجه الاعتراض على الحكمة التي أمر الله جل وعلا به من أجلها.

وقد بين الحكمة جل وعلا في هذه القضية أو شيئاً من الحكمة؛ لأن الحكم كثيرة ولا يعلمها إلا الله جل وعلا، والله جل وعلا يبتلي عباده بأشياء قد لا تظهر لهم الحكمة منها، ويكون ذلك المقصود به تسليم عقولهم لله جل وعلا وانقيادهم بدون اعتراض، أما إذا حصل اعتراض فإنه يحصل الكفر، وهو اعتراض كامن في نفوس كثير من الناس على شرع الله وقدره، وكثير من الناس قد لا يجرؤ أن يقول ما هو في نفسه فيستتر به ويقول: آمنت بالله.

ولكن في قرارة نفسه غير ذلك، وقد -مثلاً- يأمن من اللوم والعتاب أو يأمن من النكال والعقاب ولكنه لا يسلم بما في قلبه، وهذا كثير، حتى إنه يوجد في كلام الذين ينسبون إلى العلم، ولكن علمهم لم ينفعهم، كما يقول المعري معترضاً على الله جل وعلا في أبيات له: إذا كان لا يحظا برزقك عاقل وترزق مجنوناً وترزق أحمقاً فلا ضير -يا ربي- على امرئ رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا ومثلها أشياء كثيرة يذكرها هو وغيره، فهذا اعتراض على الله جل وعلا، وكأنه يقول: إنك لست حكيماً، ولست بعادل، ولست بمنصف؛ لأن الذين ينبغي أن ترزقهم ما يحصل لهم الرزق، والذين ينبغي ألا ترزقهم يرزقون، مثل المجانين والحمقى، أما الأدباء والعقلاء فيتمنون الرزق.

وهذا أول من قاله إبليس -لعنه الله- حينما قال لربه: {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:٣٣]، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢] يقول: ينبغي أن يسجد هو لي، وليس أنا الذي أسجد له فهذا اعتراض على الله جل وعلا، ومعلوم أن مثل هذا الذي يعترض على الله لا يرضى أن يكون شريكاً لله، بل يجعل نفسه فوق الله، يجعل نفسه مستدركاً على الله جل وعلا، وهل