للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من ظن السوء بالله جل وعلا الظن بأن الله لا يجازي بالأعمال، ومنه كذلك تأويل الصفات]

[ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد، وأنه يعاقب بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة له في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله ويجريها على أيديهم ليضلوا بها عباده، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم في أسفل السافلين، وينعِّم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحسن عنده سواء، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به وإنما رمز إليه رموزاً بعيدة وأشار إليه إشارة ملغزة، ولم يصرح به، وصرح دائماً بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يُتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه وتأويله على غير تأويله، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم ألا يحملوا كلامه على ما يعرفونه من خطابهم ولغتهم مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان فقد ظن به ظن السوء].

يشير بهذا إلى ما يقوله الأشاعرة والمعتزلة من أن ظاهر صفات الله جل وعلا التشبيه، مثل اليد والرحمة والرضى والغضب، ولهذا يؤولونها ويقولون: لا يجوز أن تؤخذ على ظاهرها؛ لأن ظاهرها يدل على التشبيه.

والإنسان أمامه في هذه شيئان -كما يزعمون-: إما وجوب التأويل، وإما السكوت والتسليم وعدم الاشتغال بذلك مع اعتقاد أن الظاهر غير مراد.

أي: أن يعمي الإنسان قلبه ويمسكه عن التفكر في ذلك، فلا يفكر ولا ينظر، بل ويصبح كأن أمامه شيء مجهول تماماً، بل يعودون مرة ثانية ويقولون: لابد أن يعتقد أن ظاهرها غير مراد.

وهذا معناه -على قولهم- أن ظاهر القرآن كفر، وظاهر الأحاديث شرك، وأن الناس لو تركوا بلا وحي لكان أحسن لهم؛ لأن ظاهر هذا ما أريد وإنما أريد عكسه.

فالذي أريد باليد القدرة، والذي أريد بالرحمة الإحسان للمخلوق وليست رحمة تكون صفة لله، والمراد بالغضب العقاب، والمراد بالرضى الثواب، فمرة يفسرونه بمخلوق ومرة يفسرونه بصفة أخرى، ثم لا يثبتون هذه الصفة، بل يفسرونها مرة أخرى وهكذا.

فالمقصود أن هذا خلاف ما أخبر الله جل وعلا به من البيان والهدى، فقد جعل القرآن هدى وشفاءً، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بين غاية البيان، ما ترك شيئاً حتى الطيور التي تطير إلا ذكر لنا منها علماً، ولم يأت مرة أنه قال: إن قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] المراد به أن الله فوق ما قال هذا، بل تركهم يفهمون من هذا الخطاب ظاهره.

فقوله: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا آخر الليل) يحمل على ظاهره، وإلا كيف يخبر بهذا ثم يقول له: لا تعتقده على ظاهره؟ هذا تناقض، وهذا التأويل في صفاته جل وعلا أو تعطيلها وردها من أعظم الظن السيء بالله جل وعلا.