للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ظن السوء يدور على صاحبه]

[ومن ظن أنه سبحانه لا يسمع ولا يبصر، ولا يعلم الموجودات، ولا عدد السموات ولا النجوم، ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم، ولا يعلم شيئاً من الموجودات في الأعيان، فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة ولا كلام يقوم به، وأنه لا يكلم أحداً من الخلق ولا يتكلم أبداً، ولا قال ولا يقول، ولا له أمر ولا نهي يقوم به فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائناً من خلقه، وأن نسبة ذاته إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها، وأنه أسفل كما أنه أعلى، وأن من قال: (سبحان ربي الأسفل) كمن قال: (سبحان ربي الأعلى) فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه.

ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى، ولا يغضب ولا يسخط، ولا يوالي ولا يعادي، ولا يقرب من أحد من خلقه ولا يقرب منه أحد، وأن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة المقربين وأوليائه المفلحين فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أنه يسوي بين المتضادين، أو يفرق بين المتساويين من كل وجه، أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها، فيخلد فاعل تلك الطاعات في الجحيم أبد الآبدين بتلك الكبيرة، ويحبط بها جميع طاعاته، ويخلده في العذاب كما يخلد من لم يؤمن به طرفة عين واستنفذ ساعات عمره في مساخطه ومعاداة رسله ودينه فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به سبحانه أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته كما يناله بطاعته والتقرب إليه فقد ظن به سبحانه خلاف حكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته، وهو من ظن السوء.

ومن ظن به أنه إذا ترك شيئاً من أجله لم يعوضه خيراً منه، أو من فعل شيئاً لأجله لم يعطه أفضل منه فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أنه يغضب على عبده ويعاقبه ويحرمه بغير جرم ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة ومحض الإرادة فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله فقد ظن به ظن السوء، وظن به سبحانه خلاف ما هو أهله.

ومن ظن أنه يثيبه إذا عصاه كما يثيبه إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه فقد ظن به خلاف ما تقتضيه حكمته وحمده، وخلاف ما هو أهله وما لا يفعله.

ومن ظن به أنه إذا أغضبه وأسخطه وأوضع في معاصيه ثم اتخذ من دونه أولياء، ودعا من دونه ملكاً أو بشراً حياً أو ميتاً يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ويخلصه من عذابه فقد ظن به ظن السوء.

فأكثر الخلق -بل كلهم إلا من شاء الله- يظنون بالله غير الحق وظن السوء؛ فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما شاءه الله وأعطاه، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه.

ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة طواياها رأى ذلك فيها كامناً كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شَراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً وتعتباً على القدر وملامة له واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك؟! فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغني التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه سبحانه كلها حسنى: فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل ولا تظنن بنفسك قط خيراً فكيف بظالم جانٍ جهول وقل يا نفس مأوى كل سوء أترجو الخير من ميْت بخيلِ وظنّ بنفسك السوءى تجدها كذاك وخيرها كالمستحيل وما بك من تقى فيها وخير فتلك مواهب الرب الجليل وليس لها ولا منها ولكن من الرحمان فاشكر للدليل قوله سبحانه: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح:٦]، قال ابن جرير في تفسيره: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح:٦] الظانين بالله أنه لن ينصرك وأهل الإيمان بك على أعدائك، ولن يظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين به، وذلك كان السوء من ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع.

يقول تعالى ذكره: على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين ظنوا هذا الظن دائرة السوء.

يعني: دائرة العذاب تدور عليهم به.

واختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الكوفة: (دائرة السَوء) بفتح السين، وقرأ بعض قراء البصرة: (دائرة السُوء) بالضم، وكان الفراء يقول: الفتح أفشى في السين، وقلما تقول العرب: (دائرة السُوء) بضم السين.

وقوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح:٦] يعني: ونالهم الله بغضب منه (ولعنهم).

يقول: وأبعدهم فأقصاهم من رحمته.

{وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} [الفتح:٦] يقول: وأعد لهم جهنم يصلونها يوم القيامة {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:٦] يقول: وساءت جهنم منزلاً يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات.

وقال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح:٦] أي: يتهمون الله في حكمه، ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يُقتلوا ويذهبوا بالكلية، ولهذا قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح:٦].

وذكر في معنى الآية الأخرى نحواً مما ذكره ابن جرير رحمهما الله تعالى].

قول الله جل وعلا: ((ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات)) يعني: أنزل الكتاب على رسوله صلى الله عليه وسلم مخبراً بالحق الذي يثيب به المؤمنين، ويعذب به الذين يصدون وينحرفون عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويعتقدون خلاف ذلك ويتوقعونه.

فالظن الذي يظنونه هو شيء يتوقعونه في أنظارهم وأفكارهم، وهذا الذي ينظرون إليه هو من صنع الكفار، فهم يقولون: المسلمون ضعفاء وقلة والكفار أقوياء وكثيرون، فسوف يقضون عليهم فلا تبقي لهم باقية بعد ذلك.

وذلك لأنهم لا يصدقون وعد الله ولا يؤمنون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله وعد رسوله النصر والظفر، ووعده أن يظهر دينه على الدين كله.

فالمؤمنون يثقون بوعد الله ويؤمنون به، يثقون به يقيناً، ويظنون بالله خيراً، وأنه سينصر من يؤمن به ويتبع رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء المشركون والمنافقون يظنون خلاف ذلك، والظن هو ما يقوده نظرهم إليه من حمل الأمور التي يقيسونها على ما يشاهدونه، وهم لا يؤمنون بوعد الله وبخبره الذي أخبر، فصار من جراء ذلك أن ظنوا بالله ظن السوء.

وقوله: ((عليهم دائرة السوء)) معنى الدائرة أن السوء سيدور عليهم ويتعاقب عليهم حتى يوردهم جهنم.

وقوله: ((وغضب الله عليهم ولعنهم)) غضب الله جل وعلا صفة من صفاته، فهو يغضب على من يشاء كما أنه يرضى عمن يشاء من عباده، فمن غضب عليه فهو هالك وله العذاب؛ لأن من لازم الغضب العذاب، وليس العذاب هو الغضب، فالغضب صفة من صفاته جل وعلا، فإذا غضب الله جل وعلا عذب، وكذلك يلعن من يشاء من خلقه، كما أنه يصلي على من يشاء من عباده، فقد أخبر الله جل وعلا أنه يصلي على المؤمنين هو وملائكته.

ومعنى اللعن: الطرد والإبعاد عن الرحمة.

وقوله: ((وأعد لهم جهنم)) يعني أنها مهيأة ومرصدة تنتظرهم في هذا الوقت، أي: الوقت الذي كان يخاطب الله جل وعلا به رسوله.

فهي موجودة متهيئة معدة تنتظرهم، وسوف يصلونها قريباً، وليس بينهم وبين ذلك إلا الموت، فإذا ماتوا وصلهم من جهنم وهم في قبورهم ما يصل إليهم من العذاب الذي يكون في البرزخ، وقد جاء ذلك صريحاً في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر أن الرجل إذا كان من أهل السوء ووضع في قبره فتح له باب إلى النار، فيأتيه من ريحها وحرها وسمومها ونتنها ما يعذبه الله به إلى يوم القيامة.

وإذا كان الإنسان صالحاً تقياً فُتح له في قبره باب إلى الجنة يأتيه من روحها وريحانها ما يتنعم به في قبره إلى يوم القيامة.