للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جريان القلم بكل ما هو كائن إلى يوم القيامة]

[وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: (يا بني! إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، يا بني! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات على غير هذا فليس مني)، وفي رواية لـ أحمد: (إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)، وفي رواية لـ ابن وهب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار)].

سبق أن الإسلام أعم من الإيمان من ناحية مرتبته وأهله الذين يدخلون فيه، والإيمان أخص من ناحية الذين يدخلون فيه، وأما من ناحية كون الإيمان يدخل فيه الإسلام والإسلام لا يكون داخلاً فيه الإيمان فيكون العكس فهذا في حالة ما إذا اجتمع ذكرهما جميعاً، أما إذا جاء ذكر كل واحد منهما منفرداً فكل منهما يدخل في الآخر، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:١٩]، فجعل الدين كله الإسلام، وكذلك قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:٢] إلى آخر الآيات، وقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة:٢٨٥]، وقوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ} [البقرة:١٧٧] إلى آخر الآية.

فإذا جاء أحدهما منفرداً دخل فيه الآخر، ولهذا نظائر في لغة العرب، كإطلاق وصف الفقير والمسكين، فإنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، فإذا ذكر الفقير دخل فيه المسكين، وإذا ذكر المسكين دخل فيه الفقير.

أما إذا ذكرا معاً فيفسر كل واحد منهما بمعنى مستقل، كالآية التي ذكر الله جل وعلا فيها مصارف الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:٦٠] هنا ذكرا مجتمعين، فصار لكل واحد معناه، ولهذا فُسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئاً، وفُسر المسكين بأنه الذي يجد بعض الشيء أو بعض الكفاية؛ لأن الله جل وعلا قال في آية أخرى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:٧٩]، فسماهم مساكين مع أن لهم سفينة، فدل على أن المسكين أقل حاجة من الفقير، فالمقصود هنا التفريق بين الإسلام والإيمان.

فعلى هذا يكون كل مؤمن مسلماً ولا عكس، فليس كل مسلم يكون مؤمناً، وكذلك يكون كل محسن مؤمناً مسلماً ولا عكس؛ فليس كل مؤمن يكون محسناً؛ لأن دائرة الإسلام أوسع، ويليها دائرة الإيمان، ويليها دائرة الإحسان فهي أخص، وهذه المراتب هي مراتب الدين، وآخرها وأعلاها مرتبة الإحسان؛ لأن الإحسان هو الإتيان بغاية ما يمكن من تحسين العمل المأمور به، ولا يترك شيئاً مما أمر به، ولهذا قسم الله جل وعلا أهل السعادة إلى أقسام ثلاثة، كما قال جل وعلا: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:٣٢]، فالسابق بالخيرات هو المحسن والمقتصد هو المؤمن، والذي ظلم نفسه هو المسلم؛ لأنه قد يقصر في بعض الواجبات، ويرتكب المكروهات أو بعض المحرمات، فكان ظالماً لنفسه بذلك، ولكنه من أهل الاصطفاء وإن ناله ما يناله من العذاب، فهو ممن اصطفاه الله جل وعلا وجعله من أهل الجنة.

وأما المقتصد فهو الذي اقتصر على فعل ما أوجب الله عليه ونهى نفسه عما حرم الله عليه، وأما السابق بالخيرات فهو الذي يأتي بالمستحبات ويجتنب المكروهات بعد فعله الواجبات واجتنابه المحرمات.

وهذا لا ينافي كونه جل وعلا قسم الناس جميعهم إلى ثلاثة أقسام: قسمان من أهل الاصطفاء، وقسم هالك في العذاب، كما في أول سورة الواقعة وآخرها، فذكر أقسامهم في أولها عند النفخ في الصور.

{إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:١] يعني: قامت القيامة ونفخ في الصور، {ليس لوقعتها كاذبة * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:٢ - ٣] يعني: تخفض قوماً وترفع آخرين على خلاف ما كان في الدنيا، فيُرفع من كان متقياً لله جل وعلا مؤمناً به، ويُخفض من كان كافراً وإن كان في الدنيا مرتفعاً.

{خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:٣ - ٧] يعني: أصنافاً ثلاثة، {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة:٨] يعني: أصحاب اليمين من كل أمة من الأمم، ومن كل جنس من أجناس الناس.

{وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة:٩] أي: الكفرة والمنافقون والفجار، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:١٠] فهؤلاء هم الذين يسبقون إلى أعلى المراتب وأعلى الجنات، ولهذا قال: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:١٣ - ١٤]، والثلة: الجماعة.

ثم في آخر السورة ذكر أقسامهم عند الاحتضار -عند الموت-، فأولها عند القيامة الصغرى وآخرها عند القيامة الكبرى، {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:٨٦ - ٩١] فسلم عليهم فقط ولم يذكر ما لهم؛ لأنهم سالمون من العذاب، ولم يذكر جزاءهم، بخلاف الأولين فإنه ذكر أن لهم من الحال ما يقَبلُون به فهم في أعلى المنازل.

{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:٩٢ - ٩٤]، وهذا عند الموت، فإذا مات فإنه يلاقى بحنوط من النار وكفن من النار، ثم في قبره كذلك.

والمقصود أن اختلاف الناس على حسب اختلافهم في طاعة الله جل وعلا وامتثال أمره واجتناب ما نهى، فلا يستوي من أحسن ومن لم يحسن، ومجرد الإسلام -وهو الاستسلام والانقياد- لا يكون كالإيمان الذي تحلى القلب به وثبت في القلب وصار لا يتزعزع، ثم إن المقصود من ذكر الحديث كلامه صلى الله عليه وسلم في أركان الإيمان، فإنه جعل الإسلام غير الإيمان، فذكر الإسلام بأركانه الخمسة، وذكر الإيمان بأن قال: (الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره).

فبين أن الإيمان خصال متعددة، ذكر منها أركانه الستة، وقد سميت أركاناً لأنه يبنى عليها مثل البيت الذي يبنى على ستة أعمدة إذا انهدم عمود منها لم يُنتفع بالباقي، بل ربما يؤول إلى السقوط، وكذلك الإيمان إذا ترك منه ركن، أو الإسلام، فلا يكون إيمانه أو إسلامه صحيح.

فالذي لا يؤمن بالقدر لا يكون مؤمناً، ولهذا استدل عبد الله بن عمر على أنه خارج من الدين الإسلامي لقوله: (إذا لقيتهم فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء)، فالمسلم لا يمكن أن يتبرأ من المسلم -إذا كان باقياً على إسلامه- وإنما يبغضه على حسب ما عنده من المعاصي ويحبه على حسب ما معه من الإيمان والطاعة، ولا يتبرأ منه إلا إذا خرج من الدين، فإن المسلم يجب أن يتبرأ من الكافر براءة كاملة؛ لأنه لا يمكن أن يجتمع إيمان مع موالاة كافر، فهذا من شروط الإيمان، ولهذا قال: (أخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء)، ثم قال: (والذي يحلف به عبد الله بن عمر - الذي يحلف به هو الله جل وعلا، أو بصفة من صفاته، وهذا شيء معلوم- لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله لم يقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره)، وهذا تمثيل مجرد، وإلا لو قدر أن له ملء السماوات وملء الأرض ذهباً ثم أنفقه ما قبله الله جل وعلا منه؛ لأن الله لا يقبل من الكافر شيئاً، كما قال الله جل وعلا: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:٢٣]، كقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:١٨]، فإذا طار الرماد في اليوم العاصف فلا يقدر على إمساك شيء منه، وكذلك أعمال الكفار عند الله، وفي المثال الآخر لما ذكر أنهم قسمان أصحاب ظلمات وأصحاب رد وكفر وعناد وكبر ذكر أعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء، فجعل أعمال هؤلاء الذين كذبوا وكفروا: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:٣٩].

هكذا يعملون ويحسبون أنهم على شيء، فإذا قدموا على الله بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون وظهر لهم العذاب، وهذا من أعظم الحسرات، ولهذا سمي ذلك اليوم يوم الحسرة، {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:٣٩].