للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ما هو أول المخلوقات]

ثم قوله: (إن أول ما خلق الله القلم) يدل على أن أول المخلوقات على ظاهر الحديث، القلم، وقد اختلف العلماء هل القلم خلق قبل العرش أو العرش قبل القلم؟ والصواب أن العرش قبل القلم، والعرش كان على الماء، والدليل على هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء)، فدل هذا الحديث على أن العرش والماء كانا موجودين قبل خلق القلم.

ثم قوله: (فجرى في تلك الساعة بما هو كائن) لا يقتضي هذا أن الإنسان مرغم على العمل الذي يقع منه، ليس كذلك، لكن الله علاَّم الغيوب قد علم أن هذا الإنسان سيوجد، وأنه سيعمل كذا وكذا باختياره وقدرته مختاراً مقدماً غير مُرْغَم، بل راغب، حتى لو أتيت إليه وحاولت منعه لقاتلك، فإن كان عاصياً وأردت أن تصده على المعصية يقول: مالك ولي فإذا قلت له: إنك متوعد بالنار قال: أعلم ذلك، دعني والنار فهل يكون اللوم على القدر، أو يكون عليه وهو الذي فعل باختياره؟ فالواقع أن الإنسان يعمل أعمالاً لا يدري ماذا كتبت عليه، وإنما تتبين الكتابة بعد وقوع العمل، فإذا كان الأمر هكذا فمعنى ذلك أن الله جعل الإنسان يفعل ما كتب عليه باختياره وغير مجبر ولا مقهور، ولهذا جاء تفسير اسمه الكريم جل وعلا الجبار في قوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:٢٣]: فإن الجبار الذي جبر الخلق على أن يعملوا ما علم منهم، وليسوا مجبورين على ذلك بغير اختيارهم، بل فعلوه باختيارهم، ولهذا كان العلماء إذا قالت الجبرية: إن عبدة الأوثان مجبورون يقولون: تعالى الله وتقدس أن يجبر أحداً على غير مراده؛ فإنه القادر على كل شيء، فهو خلق الإنسان مريداً لما خلق له باختياره وقدرته، وإنما يجبر الضعيف.

مثلما يقول الفقهاء: للأب أن يجبر بنته البكر على الزواج؛ لأنها قد لا تعرف مصلحتها.

والإجبار يكون على غير اختيار، أما الله جل وعلا فيتعالى ويتقدس أن يجبر أحداً، بل جعل الأمر إلى الإنسان؛ لأنه خلقه عاقلاً مفكراً، وجعل له قدرة بها يفعل ما أراد بإرادته، فإذا وجدت القدرة والإرادة وجد المراد ولابد.

والمقصود أنه إذا وقع منه الفعل فقد وقع بقدرته وإرادته، وعلى هذا استحق العقاب إذا كان الفعل معصية، واستحق الثواب إذا كان طاعة، هذا هو الذي ما احتملته عقول القدرية، فما استطاعوا أن يستوعبوا أن الإنسان يفعل باختياره -مع أن الله كتب عليه هذا الفعل- فعقولهم قاصرة؛ لأنهم لم يستنيروا بنور العلم الصحيح، ولم يهتدوا بهدي القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فضلوا، وكل من لم يهتد بكتاب الله وسنة رسوله فلابد أن يضل؛ لأن الهدى محصور في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه المشكلة لا تزال إلى الآن عند كثير من الناس، والآن أكثر المسلمين على مذهب القدر، فهم على مذهب الأشاعرة، والأشاعرة جبرية يقولون: الإنسان مجبور.

ولكن لا يصرحون بهذا، بل يقولون: الإنسان كاسب لا عامل.

ويفسرون الكسب بأنه مقارنة قدرة المخلوق التي لا تأثير لها بالفعل مقارنتها للفعل، أما التأثير بالفعل فالمؤثر فيه هو الله تعالى، حتى حداهم هذا إلى نفي الأسباب، حيث يقولون: إذا أتيت بحطب مثلاً وأججت فيه ناراً فماذا يقال لهذا؟ هل يقال: النار أحرقت الحطب؟ -هذا هو الظاهر الذي يتبادر لذهن كل إنسان، إذا سلم من الانحراف، أما الأشاعرة فلا يقولون بهذا أبداً، ولكن يقولون: إن الله خلق الاحتراق عند وجود ملامسة النار للحطب فخلق الاحتراق، فينكرونه في الأمور الظاهرة، فيقولون -مثلاً-: إذا ضربت زجاجة بحجر فكسرت هذه الزجاجة بالحجر هل يقال: إن الحجر كسر الزجاجة؟ يقولون: لا، ما كسر الحجر الزجاجة؛ لأن الحجر لا يكسر شيئاً، وإنما خلق الله الكسر عند ملامسة الحجر للزجاجة وهذا إنكار لأمور ظاهرة.

وكذلك فعل الإنسان إذا أكل أو شرب، وإذا قام أو جلس، وإذا كفر أو آمن، فإن الله يخلق هذه الأشياء عند مقارنة قدرته غير المؤثرة في هذه الأشياء، ومعلوم أن هذا مذهب باطل، خلاف ما أخبر الله جل وعلا به؛ فإن الله يصف المؤمنين بالإيمان ويقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:٤٣]، ويصف الكافرين بالكفر، فيقع الكفر منهم حقيقة، ويقع الإيمان من المؤمنين حقيقة، ويقع الأكل من الآكل حقيقة، والنوم كذلك، وهكذا القيام والمشي وغير ذلك.

وكل إنسان منا يجد في نفسه الآن أنه جاء إلى هذا المكان بإرادته وقدرته، ما أحد أرغمه على ذلك، فهكذا نقول في جميع الأعمال، وبهذا يتبين بطلان هذا المذهب الذي نقول: إنه الآن في جميع بلاد المسلمين ولا نقصد بذلك عوام المسلمين؛ لأن عوام المسلمين لا يعرفون هذه الأمور، ولا يقال فيهم: إنهم على هذا المذهب وإنما المقصود العلماء الذين يتبعهم الناس هذا مذهبهم، أكثر العلماء في العالم الإسلامي على هذا المذهب، ونحن نعرف أن هذا المذهب مذهب باطل، وإلا فالحق أن يؤمن الإنسان بما ذكر ويسلم من هذه الإشكالات وهذه الفلسفة الزائفة التي تؤدي إلى باطل، والأمر أوضح من هذا، والإنسان إذا قرأ النصوص الواردة عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم تجلى له الأمر وأصبح واضحاً إذا سلم من الانحراف.

صحيح أن هناك معاني قد تشكل على كثير من الناس، ولكنها في الحقيقة ليست مشكلة، فالأمر فيها واضح، والفطرة التي فطر الله جل وعلا عليها عباده تتفق مع ما جاء في كتابه جل وعلا وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم.

هذا هو خلاصة مذهب أهل السنة والرد على هؤلاء المبتدعة.

بقي أنه جاء في الأحاديث أن القدرية شيعة الدجال، وأنهم سيبقون على ذلك إلى قيام الساعة، وهذا موجود، ولكن القدر الذي صار إليه القدرية الذين كانوا في آخر عهد الصحابة الذين تبرأ منهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وحكموا بكفرهم، هؤلاء انقرضوا وزالوا ولا وجود لهم اليوم، هؤلاء هم الذين ينكرون علم الله جل وعلا، وإنكار العلم كفر صريح، ولا يشك في ذلك من يعرف صورة المسألة.