للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبب وقوع الشرك تصوير الصور والغلو فيها]

سبب وقوع الشرك في بني آدم تصوير الصور والغلو فيها، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون على التوحيد، ثم إنه مات قوم صالحون أسماؤهم: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وقد ماتوا في زمن متقارب، فأسف عليهم قومهم أسفاً شديداً؛ لأنهم كانوا يقتدون بهم في العبادة، وكانوا إذا رأوهم ازدادوا عبادةً واجتهاداً؛ لأنهم يقتدون بهم، فجاء إليهم الشيطان في صورة رجل ينصحهم فقال لهم: صوروا صورهم، وانصبوها في مجالسهم، فإنكم إذا رأيتم صورهم تذكرتم أفعالهم فاجتهدتم كاجتهادهم، فاستحسنوا هذه الفكرة وهذا الأمر فصنعوه، وصاروا كلما رأوا صورهم اجتهدوا في العبادة وجدوا فيها، واستمروا على هذا حتى ماتوا، ثم جاء أبناؤهم ثم أبناء أبنائهم، ونسي السبب الذي من أجله صوروا، فجاء إليهم الشيطان فقال: إن آباءكم وأجدادكم ما صوروا هذه الصور إلا لرجاء نفعها، ولطلب الوسيلة بها، والتقرب إلى الله بها ودعائها، فدعوهم فصاروا آلهة، فمن هنا بدأ الشرك، وعند ذلك أرسل الله جل وعلا إليهم نوحاً يحذرهم من هذا الشرك، ولكن الشرك قد أشربت به قلوبهم وأحبوه، وصار نوح يدعوهم ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً إلى الله جل وعلا وعبادته، فحاربوه بكل ما يستطيعون، ورموه بالجنون والسفه، وقالوا: إما أن تكف عن سب آلهتنا -كما قال إخوانهم من قريش- وعن عيب ديننا وإلا رجمناك، فقال نوح عليه السلام كما حكى الله عنه: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح:٢١ - ٢٢] يعني: حاولوا قتل نوح ورجمه وإخراجه، وهذه معاداة لله جل وعلا ومحاربة له.

{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:٢٣] يوصي بعضهم بعضاً ويقولون: إياكم أن تتأثروا بدعوة نوح وتتركوا عبادة أصنامكم، فيحذر بعضهم بعضاً، ويوصي بعضهم بعضاً بالشرك والتمسك به {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:٢٣] يعني: أوصوا أولاً بالتمسك بالآلهة عموماً، ثم نصوا على هذه المذكورة لعظمها عندهم، وفي النهاية: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:٢٦ - ٢٧]، فأمره الله جل وعلا بصنع السفينة، وصاروا يضحكون عليه، ويسخرون منه، ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون، يصنع سفينة في البر، أي جنون مثل هذا الجنون؟! فقال: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:٣٨ - ٣٩]، فعلموا عن قرب، فصارت الأرض تنبع بالماء، والسماء ترسل المياه، {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:١٢]، وأصبح الماء فوق أعلى جبل سبعين ذراعاً، فلم يبق على وجه الأرض حي إلا من كان في السفينة، وهذا الشرك وقع بسبب الصور.

أما عبادة القبور فأمرها واضح وجلي، فإنها فتنة لكل مفتون بها، وإذا نظر الإنسان في بلاد المسلمين اليوم كالهند، وباكستان، ومصر، والعراق، وغيرها، فإنه يرى القبور تقصد، وتعظم، وتدعى، ويستغاث بأصحابها! مع أن المقبور صار تراباً ورفاتاً، ما يستطيع أن يكتسب حسنة صغيرة يضعها في صحيفة حسناته، فكيف يغني شيئاً عن الذين يدعونه ويتوجهون إليه؟! وهذا من أعظم الضلال، حين يترك المشرك دعوة رب العالمين الذي بيده ملكوت كل شيء، والذي يقول للشيء كن فيكون، ويدعو عظاماً ورفاتاً قد أكلها الدود، وتفتت في التراب، وربما يكون هذا المدعو مهاناً معذباً، وربما يكون مشغولاً بنعيم أنعم الله به عليه، لا يدري عمن يدعوه شيئاً، حتى يبعث يوم القيامة فيؤنب على ذلك، ويقال له: أهؤلاء كانوا يدعونك؟ هل أمرتهم بهذا؟ فيتبرأ منهم، قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:٥ - ٦]، فيعادونهم، ويكفرون بعبادتهم، ويتبرءون من فعلهم إلى الله جل وعلا.