للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

القرون الثلاثة الأولى مفضلة تفضيلاً مطلقاً

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم -قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟ - ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)].

هذا حديث من الأحاديث التي بلغت حد التواتر وقوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني) وهذا ليس في الأمة فقط، بل هو تفضيل مطلق.

قوله: (ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) يقول عمران بن حصين راوي الحديث: فما أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً، أي أنه قال: ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم مرتين أو قال ثلاث مرات: ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وقد جاء في حديث ابن مسعود أنه ذكر بعد قرنه ثلاث مرات، وفي أكثر الروايات أنه لم يذكر (ثم الذين يلونهم) بعد قرنه إلا مرتين فقط، وهذا الذي يشهد له الواقع.

وهذا صريح وظاهر في أن خير هذه الأمة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي يعتقده المسلمون الذين سلموا من الانحراف والضلال، فالذين شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقوا الإيمان منه، وقاتلوا معه وصلوا معه وامتثلوا لأوامر الله لا يمكن أن يكون من يأتي بعدهم مثلهم، هذه عقيدة المسلمين التي يعتقدونها.

وقد أثنى الله عليهم في كتابه في آيات كثيرة وأخبر أنه راض عنهم والله جل وعلا لا يثني على من يعلم أنه سيكون مرتداً؛ لأنه علام الغيوب.

وكذلك لا يمكن أن يكون أحد مثل الرسول في الدعوة والتأثير، والتعليم والبلاغ، فلو قلنا مثلاً: إن الصحابة ليسوا أفضل ممن أتى بعدهم، أو أنهم تركوا دينهم وارتدوا، للزم أن نقول: إن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فاشلة وليست ناجحة، وهذا معناه: أن قرنه شر القرون، فينعكس قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني).

وقد اختلف العلماء في تحديد القرن، والمشهور أن القرن يقدر بمائة سنة، ولكن الذي رجحه كثير من العلماء أن القرن لا يلزم أن يكون مائة سنة، فقد يكون أكثر وقد يكون أقل، والذين قالوا: مائة سنة، قالوا: إن الصحابة منهم من بقي مائة سنة ثم مات، وهذا هو الذي سار عليه الناس، ولهذا يجعلون كل مائة سنة قرناً، ويقولون: نحن الآن في القرن الخامس عشر؛ لأنه مضى على هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ألف وأربعمائة سنة وزيادة، هذا الذي توارثه الناس، ويكاد يكون إجماعاً منهم.

فإذاً: يكون المقصود بالذين يلونهم الذين بعدهم في المائة الثانية، والذين يلونهم في المائة الثالثة، ثم بعد ذلك يحدث ما ذكر، وهو أن يأتي قوم يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويكثر فيهم السمن، ومعنى يخونون: تكثر فيهم الخيانة، وتقل أمانتهم، ويقدمون على الشهادة ولو لم تطلب منهم، وهذا هو معنى قوله: (يشهدون ولا يستشهدون) ومعنى هذا أن الديانة والأمانة والتقوى خفت عندهم بسبب قلة مخافتهم لله، وكثرت لديهم الرغبة في الدنيا وكثرت المخالفات والمعاصي وسهلت لديهم.