للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استعمال المعاريض والتنافس على الآخرة]

بعدما ذكر تلك الأمور قام رجل من الصحابة يقال له: عكاشة بن محصن الأسدي ممن سبق إلى الإسلام قديماً، ومن المهاجرين الذين هجروا بلادهم وأموالهم وأقاربهم لله تعالى، وهاجر إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من الفوارس الشجعان، وكان أيضاً من أحسن الناس وجهاً، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سائر المشاهد التي قاتل فيها، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد من ارتد من العرب، ومنهم بنو أسد، حيث زعموا أن واحداً منهم نبي، وهو طليحة الأسدي، ادعى النبوة، فذهب الصحابة لقتالهم فهزمهم الله جل وعلا، وكان طليحة الأسدي شجاعاً مقداماً معروفاً بالشجاعة والإقدام، فركب فرسه هارباً فأدركه عكاشة فرجع إلى عكاشة وقتله، فقتل شهيداً، ثم إن طليحة الأسدي تاب وأسلم، وذهب لقتال الفرس، وصارت له وقائع مشهورة ومواقف معلومة في الشجاعة والبسالة والإقدام على العدو، ثم إنه قتل في وقعة الحيرة.

فـ عكاشة قام طالباً من النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة بأن يدعو الله له أن يجعله من السبعين ألفاً، ففي رواية قال: (أنت منهم)، وفي رواية: (اللهم اجعله منهم)، وجاء في رواية في الصحيح: (أأنا منهم يا رسول الله؟ قال: نعم)، وهذه تحمل على أنه بعدما طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء استفسر مرة أخرى: هل أجيبت دعوته؟ فأخبره أن: نعم.

ثم بعدما قال عكاشة ذلك قام رجل آخر وقال: (يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم.

فقال: سبقك بها عكاشة)، وهذا من باب المعاريض التي لا تجرح أحداً، ويظهر أنه صلوات الله وسلامه عليه خشي أن يتتابع الناس في ذلك، فربما يقوم من ليس أهلاً لأن يكون منهم، وكونه يقول: أنت لست منهم قد يكون فيه سوء للإنسان الذي يواجه بهذا، والرسول صلى الله عليه وسلم يكره مقابلة الناس بما يكرهون، فهذا يدلنا على حسن أدبه صلوات الله وسلامه عليه وتربيته، فقال: (سبقك بها عكاشة)، عند ذلك أحجم الناس كلهم، وصار هذا سداً لباب الطلب، وليس الأمر كما يقول بعضهم: إن هذا الذي قام منافق.

فهذا بعيد جداً؛ لأن المنافق ما يكون في قلبه دافع يدفعه لأن يطلب أن يجعل منهم، بل هو لا يؤمن بذلك، بل يكره هذا، فهذا بعيد جداً، بل هو باطل؛ لأن هذا الذي قام لا بد أن يكون عنده دافع قلبي ورجاء يدفعه إلى أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يسأل الله، ولكن العلة هي ما ذكرنا -والله أعلم- أنها خشية التتابع في ذلك، فسد الباب بقوله: (سبقك بها عكاشة)، فصار جواباً لا يخدش شعور أحد، ويكفي في منع الإقدام والطلب من كل واحد، وهذا من حكمته صلوات الله وسلامه عليه.

والشاهد في هذا الحديث قوله في هؤلاء السبعين ألفاً: (لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)، وهذا يدلنا على أن الإنسان ينبغي له أن يطلب الفضل والأمور العالية وإن كان غيرها جائزاً، فإن سعيداً رحمه الله لما أخبره حصين أنه استرقى لحديث بلغه في ذلك قال له: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع.

يعني: أحسن من عمل بما علم، ولكن هناك شيء أفضل مما صنعت، فينبغي لك أن تبحث عن الأفضل وتترك المفضول وهذا من باب التسابق في درجات الآخرة، وهي التي في الواقع ينبغي أن يتسابق فيها ويتنافس فيها لا أمور الدنيا، فإن أمور الدنيا؛ إما أن تذهب وتترك الإنسان أو الإنسان يذهب ويتركها، ولا بد من واحدٍ من هذين الأمرين ومن هاتين الخصلتين، والأمر يذهب كأن لم يكن، بخلاف الشيء الباقي الأبدي، ولهذا أمرنا الله جل وعلا بالتنافس في الدرجات، فقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون} [المطففين:٢٦] يعني: كل واحد ينافس الآخر في أن يكون أقدم منه وأرفع درجة في العمل الصالح، ويجتهد في العمل الصالح وفي طاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [هكذا أورده المصنف غير معزو، وقد رواه البخاري مختصراً ومطولاً، ومسلم واللفظ له، والترمذي والنسائي.

قوله: [عن حصين بن عبد الرحمن] هو السلمي أبو الهذيل الكوفي، ثقة، مات سنة ست وثلاثين ومائة وله ثلاث وتسعون سنة، وسعيد بن جبير هو الإمام الفقيه، من جملة أصحاب ابن عباس، روايته عن عائشة وأبي موسى مرسلة، وهو كوفي مولى لبني أسد، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين.

وقوله: (انقض) هي بالقاف والضاد المعجمة، أي: سقط.

والبارحة: هي أقرب ليلة مضت.

قال أبو العباس ثعلب: يقال قبل الزوال: رأيت الليلة.

وبعد الزوال: رأيت البارحة.

وكذا قال غيره، وهي مشتقة من (برح) إذا زال.

وقوله: (أما إني لم أكن في صلاة) قال في مغني اللبيب: (أما) بالفتح والتخفيف على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف استفتاح بمنزلة (ألا)، فإذا وقعت (أنَّ) بعدها كسرت.

الوجه الثاني: أن تكون بمعنى (حقاً) أو (أحق) وقال آخرون: هي كلمتان: الهمزة للاستفهام و (ما) اسم بمعنى: (شيء)، أي: ذلك الشيء حق، فالمعنى: أحقٌ هذا؟ وهو الصواب، و (ما) نصب على الظرفية، وهذه تفتح أن بعدها.

انتهى.

والأنسب هنا هو الوجه الأول.

والقائل هو حصين، خاف أن يظن الحاضرون أنه رآه وهو يصلي، فنفى عن نفسه إيهام العبادة، وهذا يدل على فضل السلف وحرصهم على الإخلاص وبعدهم عن الرياء والتزين بما ليس فيهم.

وقوله: (ولكني لدغت) بضم أوله وكسر ثانيه، قال أهل اللغة: يقال لدغته العقرب وذوات السموم: إذا أصابته بسمها، وذلك بأن تأبره بشوكتها.

وقوله: (قلت: ارتقيت) لفظ مسلم: (استرقيت) أي: طلبت من يرقيني.

وقوله: (فما حملك على ذلك؟) فيه طلب الحجة على صحة المذهب.

وقوله: (حديث حدثناه الشعبي) اسمه عامر بن شراحيل الهمداني، ولد في خلافة عمر، وهو من ثقاة التابعين وفقائهم، مات سنة ثلاث ومائة.

وقوله: (عن بريدة) بضم أوله وفتح ثانيه، تصغير بردة (ابن الحصيب) -بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين- ابن الحارث الاسلمي، صحابي شهير، مات سنة ثلاث وستين، قاله ابن سعد.

وقوله: (لا رقية إلا من عين أو حمة)، وقد رواه أحمد وابن ماجه عنه مرفوعاً، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين به مرفوعاً، قال الهيثمي: رجال أحمد ثقات.

والعين: هي إصابة العائن غيره بعينه.

والحمة -بضم المهملة وتخفيف الميم-: سم العقرب وشبهها قال الخطابي: ومعنى الحديث: لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة، وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم ورقي].

قد رقى النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما، ورقاه جبريل، ودل هذا على جواز الرقية، وأنها جائزة، وأما الذي ينهى عنه ويكره فليس من نوعه، بل هو مكروه فقط، فهو من باب الكمال، وهو كون الإنسان يطلب من الإنسان، وليس هذا خاصاً بالرقية، بل كل طلب يطلبه الإنسان من الآخر مكروه، وذلك لأن الطلب فيه ذل وفيه افتقار للقلب، وقلب العبد الذي يعبد الله حقاً عبادة كاملة يجب أن يكون خالصاً لله ليس لأحد فيه شيء، ولهذا لما اتخذ الله جل وعلا إبراهيم خليلاً وجاءه الولد فأحبه صار له شعبة من حب قلبه، فأراد الله أن يبتليه لينظر هل يكون لهذا الولد اشتراك في الحب الذي هو خالص لله جل وعلا؟ فأمره بذبحه، فأقدم على ذبحه غير مبال، حين ذلك بين أن حبه خالص لله، وليس معنى هذا أنه لم يتبين لله تعالى وتقدس، ولكن المقصود أن يبرز ويظهر للناس وللمبتلى نفسه، وإلا فالله عالم بكل شيء لا يخفى عليه شيء، ولهذا قد كتب الله جل وعلا كل ما يقع من الناس، وعلمه قبل وجودهم، ولا يمكن أن يقع شيء على خلاف علمه، ومع ذلك لا يؤاخذهم بعلمه، بل لا بد من كتابة الأعمال، فالملائكة تكتب أعمالهم، ولا بد أن يسألوا يوم القيامة، كل واحد يسأله الله جل وعلا عن عمله، عملت يوم كذا كذا وكذا فهل تنكر؟ وربما ينكر الإنسان، فإن أنكر جاءت الشهود من كل مكان، تشهد عليه أعضاؤه والأرض وكل شيء، فالأرض تشهد أنه عمل كذا وكذا وتنطق، وأعضاؤه كذلك تنطق.

والمقصود أن الله جل وعلا من كمال عدله وحبه للعذر وأن يعذر الناس لا يأخذ بمقتضى علمه، بل لا بد من العمل الظاهر البارز الذي يشاهد ويسجل، فهذا كله يدل على كمال عدل الله جل وعلا.