للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم المدح]

قال الشارح رحمه الله: [حمايته صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص، وهذا كثير في السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم كقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) وتقدم].

هذا منها، يعني: التمادح في الوجه وكون الإنسان يمدح آخر مقابلاً له نهى عنه صلوات الله وسلامه عليه.

والإطراء معناه: تجاوز الحد الذي حده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو: المبالغة في المدح، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) وفي رواية: (لا أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله إياها، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله) فحذر صلوات الله وسلامه عليه عن المدح الذي يدعو المادح إلى أن يتجاوز الحق.

والمدح نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في وجه الممدوح، وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احثوا في وجوه المداحين التراب) يعني: إذا جاءك من يمدحك في وجهك فينبغي أن تحثو في وجهه تراباً، وتقول: هذا جزاؤك؛ لأن المدح فتنة، والنفس تحب أن تمدح، حتى إن كثيراً من النفوس إذا مدحت تستأنس بالمدح، وإن كان ما قيل ليس صدقاً، فتجده يقول: لعله صدق، وهو يعرف من نفسه أنه ليس كذلك! فيستأنس بهذا ويميل إليه، ثم فيما بعد يصبح يحب هذا، والذي لا يمدحه لا يعطيه حقه، كما لو كان الممدوح مسئولاً على أمر عام على المسلمين، فإذا مدح عمل الواجب عليه، وإذا لم يمدح ظلم هذا الذي لم يمدحه، ولم يعمل العمل الذي يجب عليه.

والمفاسد التي تحدث بسبب المدح كثيرة جداً كالظلم، وترك الحق، وارتكاب الباطل، وكذلك حب النفس، بل عبادة النفس، والرسول صلوات الله وسلامه عليه طبيب القلوب، يعلم ماذا يكون أثر المدح، ولما مدح إنسان آخر في مجلسه، قال: (ويلك! قطعت عنق صاحبك، إن كنت مادحاً ولا محالة فقل: أحسبه كذا وكذا والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً) هكذا ينبغي أن يقول.

أما أن يمدحه في وجهه فهذا -في الحقيقة- شأن المنافقين؛ فهم الذي يأتون يقولون في وجه الإنسان قولاً ثم إذا غابوا عنه قالوا خلافه، وقد عرف الناس أن الذي يمدحك حاضراً يذمك غائباً، ولو أن الناس امتثلوا ما أرشدهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم لسلموا من هذه الورطة، ومن هذه الفتنة والبلية.

والمدح في الحقيقة مرض اجتماعي يجب أن يعالج بالوسائل التي تزيله أو تقلله، وعلاجه اتباع قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن ينهى عن المدح، فإذا رأيت أخاك يمدحك فلا تقره على هذا، بل انصحه، وقل له: إن هذا ما ينبغي؛ لأن هذا فتنة لي ولك، فلا تمدحني، ولا تقل هذا القول.

وإن كان المدح كذباً، فسوف يحاسب الله جل وعلا عليه يوم القيامة، وإذا أقررت ذلك فستحاسب كذلك، فيجب على المسلمين أن يتناصحوا فيما بينهم، وأن يتعاونوا على الحق، وألا يكونوا أعواناً للشيطان على الباطل.

فالمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كل وسائل الباطل، فسدها ومنعها ومنها، الإطراء في المدح، فإذا تكلم الإنسان فيجب أن يتكلم بحق، وأن يتكلم بالشيء الواقع، وإذا كان الكلام في الحاضر قد يجر إلى فتنة فلا يجوز أن يتكلم به، بل يدرأ الفتنة؛ لأن النفوس ضعيفة في الحقيقة، وتميل إلى طلب المدح، وإلى طلب الرفعة، وقد سمي هذا بالشهوة الخفية، وقد جاء التحذير منها، والشهوة الخفية هي: حب الرئاسة والترفع على الناس، وهذه الشهوة الخفية كامنة في النفوس، فكل نفس فيها حب العلو وحب الرفعة، ولكنه كامن فيها، فإذا ترك سكن وقر، وإذا أثير ثار، فلا يجوز إثارته، بل يجب أن تهذب النفوس بالحق الذي جاء به الكتاب والسنة، ولن تتهذب النفوس إلا بهذا.