للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث عبد الله بن الشخير: (انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله)]

قال المصنف رحمه الله: [عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: (انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا فقال: السيد الله تبارك وتعالى، قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان) رواه أبو داود بسند جيد].

يقول عبد الله بن الشخير رضي الله عنه: كنت في وفد بني عامر، وهو وفد من الوفود التي وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع من الهجرة، يعني: أن هذا وقع في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (فلما أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: أنت سيدنا.

فقال صلى الله عليه وسلم: السيد الله، فقلنا: أنت أفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً -وفي رواية-: أنت سيدنا وابن سيدنا، فقال: السيد الله، قالوا: أنت خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال: أيها الناس! قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، أنا رسول الله فقولوا: رسول الله) فهذا من الأحاديث التي أراد بها صلى الله عليه وسلم أن يسد الطرق التي يأتي منها الشيطان، وينقص بها عبادة المسلمين، وهذا منه.

ولا شك أنه صلوات الله وسلامه عليه سيد ولد آدم كما جاء ذلك عنه صلوات الله وسلامه عليه، كما في حديث أبي هريرة الذي في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، أتدرون ما ذلك؟ قلنا: لا، إلا أن تخبرنا فقال: إذا كان يوم القيامة، وجمع الله جل وعلا الناس في صعيد واحد، ألهم الله جل وعلا الناس أن يطلبوا الشفاعة من الله جل وعلا حتى يفصل بينهم، فيذهبون إلى آدم ويطلبون منه ذلك، فيتأخر ويأبى، ثم يذهبون إلى نوح، فيتأخر ويأبى، ثم يذهبون إلى إبراهيم فيتأخر ويأبى، ثم يذهبون إلى موسى فيأبى، ثم يذهبون إلى عيسى فيأبى، ثم يأتون إليّ فأقول: نعم -يعني: أشفع لكم- فأذهب فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فأبقى قدر أسبوع ساجداً ثم يقول لي جل وعلا: ارفع رأسك، واسأل تعط، واشفع تشفع) فيشفع في أن يأتي الله جل وعلا ليفصل بين عباده، وهذا جاء تفسيره بأنه هو المقام المحمود الذي وعد الله جل وعلا أن يبعثه إياه قوله: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:٧٩] أي: يحمده عليه الأولون والآخرون، حتى قوم نوح، فهو بذلك سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، والسيد في اللغة هو: الرئيس المقدم بالقوم، ولكن كره صلوات الله وسلامه عليه أن يكون هذا طريقاً للشيطان بأن يأتي إليهم ويقول: هو سيدكم، ثم يأتي إليهم ويقول: اسألوه الشفاعة، ثم يتدرج بهم ويقول: اسألوا الرسول وإن كان ميتاً، اسألوه أن يعطيكم كذا، ويشفع لكم بكذا، فيدخل بهم من هذا الباب إلى الشرك، ولهذا منع ذلك صلوات الله وسلامه عليه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (قولوا بقولكم أو بعض قولكم) يعني: قولوا لي كما تقولون لبعضكم بعضاً، وقد نهانا ربنا جل وعلا أن ندعوه باسمه، فلا تقول: محمد بن عبد الله، بل أمرنا أن نقول: رسول الله، نبي الله، كما قال جل وعلا: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:٦٣] يعني: نحن ندعو بعضنا بعضاً بالأسماء، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الله جل وعلا أصحابه أن يدعوه بالنبوة وبالرسالة؛ لأن هذا هو أشرف ما أكرمه الله جل وعلا به، أن جعله نبياً رسولاً، والله جل وعلا أثنى عليه في مقامات الثناء التي أثنى عليه بها في كتابه بلفظ العبد؛ لأن أشرف وصف للإنسان أن يحقق عبودية ربه، والعبادة هي نهاية الذل ونهاية الخضوع للمعبود مع التعظيم والمحبة له، يقول جل وعلا في مقام التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:٢٣] فجعله عبداً له، وقال في مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:١]، وقال في مقام الدعوة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:١٩]، وقال في مقام التنزيل: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:١] فهذه المقامات الأربع هي أشرف مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم، والله وصفه فيها بلفظ العبودية، لهذا قال: (أنا عبد الله)، وعيسى عليه السلام لما جاءت به أمه تحمله بعد الولادة، وهو من الذين تكلموا في المهد، فأول كلمة تكلمها وواجه الناس بها أنه قال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:٣٠]، ولما جاءت أمه به تحمله اتهموها كما قال الله عنهم: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم:٢٧] يعني: أمراً عظيماً جداً؛ كيف تأتين بالولد وليس لك زوج؟! ولهذا قالوا: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:٢٨ - ٢٩] يعني قالت: كلموه، فتعجبوا {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم:٢٩] فالتفت إليهم وقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:٣٠] فأول كلمة قالها: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} فالخلق لا يخرجون عن عبودية الله جل وعلا، بل أشرف حال للإنسان أن يحقق مقام عبودية الله جل وعلا، فقوله صلى الله عليه وسلم هنا: (السيد الله) يدلنا على أنه يطلق على الله أنه سيد، وقد اختلف الناس في هذا الإطلاق: فمنهم من منع، وقال: السيد لا يكون إلا من الجنس الذي يضاف إليه، يعني: يقال: سيد ربيعة، سيد تميم، فإذا كان رجل من ربيعة فلا يقال له: إنه سيد تميم، وإذا كان من تميم فلا يقال له: إنه سيد ربيعة، فيقولون: لا ينبغي أن نطلق هذا على الله جل وعلا، والصواب أنه إذا تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم وجب علينا أن نقوله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، وقد صح عن ابن عباس في قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:٢] قال: الصمد هو: السيد الذي كمل في سؤدده، وكذلك قال غيره من السلف، وكذلك قال في قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} [الأنعام:١٦٤] أي: إلهاً وسيداً، هكذا كان يقول ابن عباس، ويكفينا قول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا، ففيه أنه يجوز إطلاق سيد على الله جل وعلا، ومعنى السيد الذي كمل في جميع صفاته، ولا يجوز أن يطلق على المنافق أنه سيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا للمنافق: سيد، فإنه إن كان سيداً فقد أغضبتم ربكم تعالى).