للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره)]

قوله تعالى في هذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:٦٧] يعني: ما عظموه حق تعظيمه، إذ عبدوا معه غيره، إذ توجهوا بالعبادة إلى الأصنام، وإلى الرجال من الجن والإنس، وإلى الملائكة، وإلى بعض المخلوقات، صاروا يتوجهون إليها، ويجعلونها وسائط بينهم وبين الله، يزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى، فمن فعل هذا لم يقدر الله حق قدره.

ثم ذكر شيئاً مما يجب أن يعلم عنه جل وعلا ويعظم به فقال: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:٦٧] يعني: أن مخلوقاته -الأرض بما فيها والسماء بما فيها- كلها يقبضها بيده، فتكون صغيرة حقيرة بالنسبة إلى يده الكريمة جل وعلا، كما قال ابن عباس: السماوات ومن فيها والأرض ومن فيها إذا قبضها الله جل وعلا تكون بيده كالخردلة بيد أحدكم، ولله المثل الأعلى، فالله أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، ولا يجوز أن يتصور متصور أنه إذا قال ربنا جل وعلا: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] أن معنى ذلك: أنه في جوف السماء، أو أن السماء تحويه، أو أنها تقله، أو تظله تعالى وتقدس، بل هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل)، ينزل إلى السماء الدنيا وهو فوق عرشه، ولا يكون فوقه شيء لا سماء ولا غيرها، وكذلك إذا جاء يوم القيامة إلى الأرض ليفصل بين عباده كما قال بعد هذه الآية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:٦٨ - ٦٩] {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} يعني: إذا جاء إلى الأرض ليقضي بينهم ويحاسبهم؛ فإنه يأتي إلى الأرض وهو فوق عرشه، وفوق السماوات كلها، وفوق كل شيء، ولا يمكن أن يكون فوقه شيء تعالى وتقدس، ولهذا يقول العلماء: إن علو الله وفوقيته عقلي شرعي، دل عليه العقل والشرع، وهو ثابت بالفطرة وبالعقل وبالشرع.

أما الفطرة: فما تجد إنساناً من الناس إذا دعا ربه وقال: يا رب، إلا رفع يديه نحو السماء ثم يسأل ربه وهو يشير إلى فوق، ما يسأل ربه من تحت أو من يمين أو من شمال تعالى وتقدس، فهو فطر خلقه على معرفته بأنه فوق خلقه كلهم، كما قال جل وعلا: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:١٨]، وكل من في السماء والأرض عباد له جل وعلا.

المقصود أنه يجب أن يعظم الله ويعرف قدره، وأنه أكبر وأعظم من كل شيء، فقول المؤلف في هذه الآية: باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} يقصد به: ما جاء من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الآثار عن الصحابة، وذكر قليلاً مما جاء بمعناه؛ ليحتذى حذوها، وتكون دليلاً يستدل به المسلم على معرفة ربه جل وعلا؛ لأن الله تعالى تعرف إلى عباده بأوصافه التي وصف بها نفسه، فعباده المؤمنون يعرفونه بما تعرف به إليهم في كتابه وعلى ألسنة رسله، لا ما يقوله الملحدون أهل الشك والريب، الذين يقيسون الرب جل وعلا على نفوسهم، وإن كانوا يزعمون أنهم ينزهون الله، لكن الواقع أنهم يشبهون الله بخلقه.

ولهذا تجدهم ينفون الصفات ويقولون: إنها تدل على التشبيه، فهم ينفون يد الله ويقولون: إن الله ليس له يد، وليس له رجل، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله يضع رجله جل وعلا في النار يوم القيامة عندما يقال لجهنم: {هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:٣٠] فينتهي الخلق الذين أعدوا لها من الجن والإنس وهي لا تزال تطلب المزيد وتقول: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)؛ عند ذلك يضع الله جل وعلا فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتتضايق وتقول: قط قط، يعني: كفاني، فالله لا يظلم أحداً، فهو الجبار المتكبر الذي هو أكبر من كل شيء.