للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أول من أفسد العقيدة وبث الشبه]

أول من عرف أنه تكلم في العقيدة لإفسادها رجل مجوسي يقال له: سوسن حيث قال: إن الله لم يعلم الأشياء قبل وجودها، وإنما يعلمها بعد وجودها، ونفى القدر، فتبعه من تبعه على هذا، فصار أئمة المسلمين يقتلون من قال هذا القول؛ لأنه كفر بالله.

ثم ظهر بعد ذلك رجل يقال له: الجعد بن درهم، وهو متهم بأنه يهودي؛ لأنه -كما قال العلماء-: تلميذ لـ أبان بن سمعان وأبان بن سمعان تلميذ لـ طالوت، وطالوت هذا تلميذ ل لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطالوت هو ابن أخت لبيد، فأظهر الجعد قوله: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً؛ لأن الكلام يتطلب لهاة وشفتين، وحنجرة -لأنه يريد أن يقيس رب العالمين على خلقه- تعالى وتقدس، فأصبح يلقي على الناس مثل هذه الشبه، ويقول: الرب جل وعلا لم يتخذ إبراهيم خليلاً؛ لأن الخلة تدل على الفقر والحاجة، وهذا لا يجوز، والصحيح أن خلة المخلوق هي التي تدل على الحاجة والفقر، أما خلة الرب جل وعلا فهي تدل على الكمال، وكذلك الكلام يدل على الكمال، ومعلوم أن الكلام والخلة وغيرهما أمور صرح الله جل وعلا بها في كتابه، فأخبر أنه كلم موسى تكليماً، وأنه اتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يشك المسلمون في ذلك.

ولما قال هذا الرجل هذا القول، وبلغ قوله أحد قواد بني أمية وهو خالد بن عبد الله القسري؛ طلب هذا الرجل فأخذ وجيء به مقيداً، وكان ذلك اليوم يوم عيد الأضحى، وكانت العادة أن القائد هو الذي يصلي بالناس وهو الذي يخطب، فقد كان من صفات القائد أن يكون عالماً شجاعاً بصيراً، فجاء بهذا الرجل مقيداً إلى مصلى العيد، فخطب المسلمين، وفي آخر خطبته قال: أيها المسلمون! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم؛ لأنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فنزل من على المنبر وقتله بيده أضحية؛ فشكره العلماء على صنيعه هذا؛ لأنه قتل من حرض على الكفر بالله جل وعلا.

وكان قد تتلمذ على الجعد بن درهم رجل يقال له: جهم بن صفوان، وأخذ عنه الباطل والكفر؛ فتتبعه أحد القواد -وهو: سلم بن أحوز - حتى أمسكه وقتله؛ انتقاماً لله جل وعلا، ولكن كان هذا المذهب الفاسد قد انتشر، فنسبت إليه الفرقة الضالة التي يقال لها: الجهمية، وهذه الفرقة من أعظم علاماتها أنها لا تصف الله جل وعلا بصفة، ولا تسميه باسم -تعالى وتقدس- إلا بالاسم العام المجمل الذي لا يدل على مدح ولا ثناء؛ كالوجود مثلا، ً وكونه شيء -تعالى وتقدس-، وهذه معالم كثير من الكفرة من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم.

ثم كثر الخلاف، وكثر الملاحدة المفسدون، فظهرت المعتزلة، وتقربوا إلى ولاة الأمور، وصار منهم القضاة، ومنهم رؤساء القضاء، ومنهم مستشارون لبعض ولاة المسلمين، فغروهم أن يجبروا الناس على القول بأن القرآن مخلوق، وأن الذي لا يقول بهذا القول يجب قتله.

ثم زينوا لولي الأمر أن يكتب على ستار الكعبة: (ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم)، غيروا كتاب الله؛ لأنهم يأبون أن يصفوا الله بالسمع والبصر -تعالى الله وتقدس-، ومع ذلك بقي الحق ظاهراً، وبقي من ثبت على الحق حتى عند الابتلاء والضرب والقتل؛ فثبت الإمام أحمد على القول بأن القرآن كلام الله، وهو صفته، منه بدأ، وإليه يعود، وأن القول بأنه مخلوق كفر؛ لأن معنى ذلك أن شيئاً من الله مخلوق تعالى الله وتقدس.

فأثبت الله جل وعلا الحق بطائفة نصرها وثبتها على الحق، ودحر الباطل وأهله، والباطل قد يكون له صولة في وقت من الأوقات، ولكن صولته لا تدوم، إذ لا بد أن يظهر الحق بإذن الله.