للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فوائد حديث الحبر الذي قال: (يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع)]

هذا الحديث يدلنا على أمور: أولاً: يدلنا على عظمة الله وكبريائه، وأنه أكبر وأعظم من كل شيء، وأن السموات على سعتها وعظمها تصبح بالنسبة إلى الله حقيرة صغيرة جداً، كما قال عبد الله بن عباس: إن الله يقبض السماوات كلها، فتكون في كفه جل وعلا كالخردلة، لا يجوز للإنسان أن يتصور أن هناك شيئاً أكبر أو أعظم من الله، وإذا كان بهذه العظمة فكيف يسوغ للإنسان أن يقول: إنه مع خلقه بذاته حال معهم؟ وكيف يسوغ لإنسان أن يقول: إن السموات تكون فوقه إذا نزل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: (إذا بقي ثلث الليل الآخر ينزل الله إلى السماء الدنيا، فيبسط يده فيقول: هل من تائب فيتاب عليه؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ هل من سائل فيعطى؟ إلى أن يطلع الفجر) ما يجوز أن يتصور متصور أن هذا النزول الإلهي في آخر الليل إلى السماء الدنيا تكون فيه السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والعرش والكرسي والبحر فوقه تعالى الله وتقدس، بل ينزل وهو فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء.

ثانياً: قوله جل وعلا: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:٢٢] هذا يوم القيامة، وقوله جل وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:٢١٠] هذا أيضاً يوم القيامة حين يحشر الناس على وجه هذه الأرض بعدما يمدها، ويزيد فيها، ويذهب جبالها ووهادها؛ فتصير قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً؛ حتى تتسع للخلق من الجن والإنس، منذ خلقوا إلى آخر مولود منهم، فيجمعهم عليها راغمين ذليلين حقيرين، ترى الذي عصوا الله كالذر تطؤهم الأقدام، فإذا طال بهم الوقوف استشفعوا بالأنبياء أن يأتي ربهم جل وعلا ليقضي بينهم؛ فيأتي جل وعلا وهو على عرشه فوق سماواته بل فوق كل شيء؛ لأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء.

ثالثاً: فيه أن لله يدين يقبض بهما إذا شاء أن يقبض، فيقبض السماوات والأرض، وإحداهما يمين، كما قال جل وعلا: {وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}، وفي صحيح مسلم: (يطوي السموات بيمينه، والأرض بشماله) وهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وصح تفسير هذه الآية عن عبد الله بن عباس في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} يقول في تفسيرها: يطوي السموات بيمينه، والأرضين بيمينه، وشماله خلو ما فيها شيء، أي: أن جميع مخلوقاته يطويها بيمينه فقط، هكذا قال حبر الأمة، ومثل هذا لا يقوله عن رأيه، إنما يقوله عن علم تلقاه من مشكاة النبوة.

رابعاً: في هذا النص التصريح بأن ليديه أصابع جل وعلا، يمسك بها ما يشاء، ويضع عليها ما يشاء، وفيها أيضاً إثبات هزه الأشياء هزاً قوياً وقوله: أنا الملك، يعني: الملك الحق الذي ليس لأحد معه ملك تعالى وتقدس، وجاء هذا موضحاً في تفسير قوله جل وعلا: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:١٨ - ١٩] وقبلها قوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:١٦]، يقول العلماء فيها: إن الله جل وعلا إذا كان يوم القيامة قبض على سمواته وأرضيه، ويطويها بيده، ثم يهزهن ويقول: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه فيقول: لله الواحد القهار، جاء هذا في آثار مروية عن السلف، وفيه ما هو مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأمور التي يجب الإيمان بها، ويجب أن يعلم الإنسان عظمة الله جل وعلا، وأن نصفه بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله على حد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} تعالى وتقدس، فكل ما وصف الله جل وعلا به نفسه، وجاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم، يجب أن نؤمن به على ظاهره، خلافاً لما يقوله الأشاعرة وأهل الكلام الذين يقولون: هذه ظواهر لا يجوز اعتقادها؛ لأنا لو اعتقدنا ظاهرها لدلت على التشبيه لله تعالى وتقدس، ونحن نقول: هذا باطل، وظن سوء بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم.

أما كونه ظن سوء بالله؛ لأن الذي دعاهم إلى هذا القول هو تصورهم أن هذه الصفات مثل صفاتهم التي يعقلونها من أنفسهم، تعالى الله وتقدس، ولهذا إذا سمعوا مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا) قالوا: كيف ينزل إلى السماء الدنيا آخر الليل، وآخر الليل يختلف باختلاف المناطق والأقاليم؟ فلو قلنا بهذا لكان النزول دائماً متواصلاً طوال أربع وعشرين ساعة! ونحن نقول: هذا القول الذي تقولونه، والتقدير الذي تقدرونه؛ لو كان النزول مثل النزول المعهود لكم، نزول جسم إلى جسم، ولكن هذا نزول الله، والله جل وعلا يستمع لخلقه كلهم في آن واحد وهم يناجونه ويعبدونه، كل واحد منهم يقول: يا رب يا رب، وهو يسمع كل واحد، لا يشغله سماع هذا عن سماع الآخر.

وكذلك يرزقهم كلهم في آن واحد، ويعلم ما في نفوسهم في آن واحد، وكذلك إذا صار يوم القيامة يحاسبهم كلهم في ساعة واحدة، وكل واحد يكلمه رب خالياً به، يرى أنه ما يكلم غيره، وهو يكلم الخلق كلهم، فالرب جل وعلا لا يجوز أن نقيسه بالمخلوقين في أفعاله وأوصافه، فالذي يقول مثل هذا القول؛ ما قدر الله حق قدره تعالى الله وتقدس.

فالمقصود: أنه يجب علينا أن نعتقد ما قاله الله في نفسه، وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، على ما يليق بالله وعظمته وكبريائه، ولهذا يقول الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] فأثبت لنفسه السمع والبصر الذي هو موجود في المخلوقات، ولكن سمعه وبصره ليس كسمع المخلوق وبصره، وكذلك سائر أوصافه جل وعلا، فهذا ظن السوء بالله.

أما ظنهم السوء بالرسول صلى الله عليه وسلم فواضح، فعلى قولهم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ أمته ما ظاهره الكفر، وتركهم بدون أن يوضح لهم، تعالى الله وتقدس أن يقر نبيه على هذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم وضح للأمة غاية الإيضاح، ولم يأت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر لنا مثل هذه الأحاديث قال: لا تعتقدوا ظاهرها أبداً، بل جاء ما يدل على أنه يريد منا أن نعتقد ظاهرها على ما يليق بالله، ففي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك؛ يعلم أن فرجكم قريب) يعني: إذا تأخر المطر، وإذا أجدبت الأرض، فمن الناس من يقنط ويستبعد الخير، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة: (ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك؛ يعلم أن فرجكم قريب، فقال أبو رزين العقيلي: يا رسول الله! أو يضحك ربنا؟ قال: نعم، فقال: إذاً لا نعدم خيراً من رب يضحك -وفي رواية إذاً: لا يعدمنا ربنا خيراً إذا ضحك-) فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

وفي حديث عائشة أنه قال: (أو يضحك ربنا يا رسول الله؟! قال: إي والله) أقسم صلى الله عليه وسلم، فيجب أن نقبل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن نعظم ربنا جل وعلا، فلا يكون ضحكه كضحك المخلوق -تعالى وتقدس-، ولا تكون يده كيد المخلوق، وهكذا بقية أوصافه.

فهذه طريقة أهل السنة: يقبلون ما جاء عن الله وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم مخبراً به عن ربه جل وعلا من غير تحريف يسمونه تأويلاً، وهو في الواقع تحريف، فأهل البدع قالوا: يد الله قوته، أو نعمته، أو سلطانه، أو قهره، هكذا قالوا، وهذا في اليد الواحدة فكيف باليدين، كما قال جل وعلا: {قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:٦٤] فهل يجوز أن نقول: نعمتان مبسوطتان؟ النعمة لا حصر لها، ولو كان مثل ما يقولون لبين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا سيما وهم يقولون: اعتقاد ظاهر هذه النصوص كفر، ولازمه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقر الأمة على الكفر، فنقول: من اعتقد هذا فهو لم يشهد أن محمداً رسول الله في الحقيقة؛ لأن معنى شهادة أن محمداً رسول الله أنه رسول بلغ ما أنزل إليه من ربه البلاغ المبين، ولم يترك الأمر مشتبهاً ملتبساً على الخلق، بل وضح وبين في آخر مشهد عظيم شهده مع أمته، لما خطب في منى وفي عرفات وفي حجة الوداع قبيل وفاته صلوات الله وسلامه عليه فقال: (إنكم مسئولون عني أيها الناس، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، -هكذا قالوا له- فصار يشهد ربه عليهم، يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكسها إليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد) أي: اشهد عليهم أنهم شهدوا لي بالبلاغ، فالذي يقول هذا القول فإنه لم يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ.

ثم يجب على العبد المسلم أن يعتقد عقيدة جازمة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بالله، وأنه صلى الله عليه وسلم أتقاهم لله وأخشاهم له، وأعظمهم غيرة على الله أن يوصف بغير ما وصف به نفسه، فلا يمكن أن يقر اليهودي على مثل ذلك، قال أحد شراح الأشاعرة في شرحه لهذا الحديث -وللأسف فإنه شرح كلام الرسول صلى الله عليه وسلم-: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك تعجباً من جرأة اليهودي على التشبيه، وهذا ظن سوء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيث يضحك على الباطل، فالرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع الباطل غضب ولا يقوم أحد لغضبه، فلا يقال: إنه يضحك من الباطل والكفر! فيجب أن ينزه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا القول، بل آحاد الأمة يتنزه عن مثل هذا.

فالمقصود أن ا