للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إثبات رؤية الله يوم القيامة]

الله جل وعلا غيب لم يره أحد، ولم يطلع عليه أحد فيصفه، ولو أمكن لأحد أن يراه لرآه أفضل الخلق وخاتم الرسل محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإن الله عرج به -وهذا أيضاً من أنواع الأدلة على العلو- إلى السماء السابعة، بل إلى سدرة المنتهى -وسدرة المنتهى في السماء السابعة- ثم أوحى إليه ما أوحى جل وعلا، والذي جاءنا صريحاً أنه أوحاه إليه الصلاة، ففرض عليه الصلوات الخمس هناك، ولم ير صلى الله عليه وسلم ربه في ذلك المقام، فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هل رأيت ربك؟ -يعني: في المعراج- فقال: (رأيت نوراً) -وفي رواية- (رأيت ناراً) -وفي رواية- (نور أنى أراه؟)) يعني: لا أستطيع رؤيته.

وكذلك أخبرنا ربنا جل وعلا عن كليمه -الذي كلمه بلا واسطة، وسمع كلامه- موسى عليه السلام، حيث كلمه الله جل وعلا وهو على عرشه عالياً على خلقه، وموسى بالأرض، فكلمه فسمع كلامه، وخاطبه، ثم طمع في أن يرى ربه، فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}؛ فقال له جل وعلا: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:١٤٣] يقول علماء التفسير: تجلى الله جل وعلا للجبل شيئاً قليلاً جداً، فما استطاع الجبل الثبات لرؤية الله.

وفي الصحيح عن أبي موسى الأشعري قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وسبحات الوجه: بهاؤه ونوره وجماله جل وعلا، فلو كشف للخلق هذا النور لاحترقوا عن آخرهم.

فالمخلوقات في هذه الحياة الدنيا لا تقوى على مشاهدة الله جل وعلا، ولكن المؤمنين يوم القيامة يرون ربهم؛ لأن تركيبهم يتغير، فيصبح تركيباً كاملاً لا يقبل الموت، ولا يقبل النقص، فيثبتون لرؤية الله، بل تكون الرؤية هي أعلى نعيمهم في الجنة.

ورؤيته تعالى تكون في الجنة، ويرونه أيضاً في الموقف كما جاء صريحاً في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري الطويل الذي فيه ذكر الشفاعة، وأن الله جل وعلا بعد الشفاعة يأتي للفصل بين خلقه، فيخاطب خلقه كلهم، فيقول جل وعلا: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فيقولون: بلى يا رب) ومعنى (يتولاه في الدنيا) يعني: يتخذه ولياً يدعوه ويرجوه ويسأله ويتضرع إليه، فالذي يتولى الله يكون الله وليه، والذي يتولى صاحب القبر يكون صاحب القبر هو وليه، والذي يتولى الصنم يكون وليه.

وذكر صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا يمثل لهم ما كانوا يعبدونه في الدنيا، فالذين كانوا يعبدون الأصنام تأتي أصنامهم بأعيانها، والذين كانوا يعبدون عيسى وعزيراً ومريم والأولياء تأتي شياطين بصورهم، والذين كانوا يعبدون الشمس والقمر تأتي الشمس والقمر، فإذا اجتمعت لديهم يقول الله جل وعلا: اتبعوهم فهؤلاء أولياءكم، فيتبعوهم، فيذهب بهم إلى النار فيلقون فيها، يلقى أتباعهم خلفهم، قال الله جل وعلا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:٩٨ - ٩٩] لما نزلت هذه الآية قال مشرك من المشركين: الآن سأفحم محمداً -يعني: أغلبه في الحجة- فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نحن نعبد الملائكة، والنصارى يعبدون عيسى وأمه، فالملائكة وعيسى وأمه يكونون في النار، فجاء الوحي من الله جل وعلا وأنزل عليه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:١٠١ - ١٠٢] إلى آخر الآيات، وقد أخبر الله جل وعلا عن هذا في القرآن، وأنه إذا حشر الناس إلى يوم القيامة، خاطب الملائكة قائلاً: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:٤٠] فيقولون: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:٤١] فهم الذين زينوا لهؤلاء تلك العبادة.

المقصود: أنه لا يجوز أن نصف الله جل وعلا إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، أما كوننا نستدل على علو الله بالعقل وبالفطرة؛ لأنهما اتفقا مع الشرع، وإلا فإنه لا يجوز أن يكون العقل مستقلاً -وكذلك الفطرة- في دليل لا يشارك الشرع فيه، فنحن كلفنا بالوحي الذي أنزله الله جل وعلا على رسوله؛ ولذلك فكل إنسان أول ما يوضع في قبره يأتيه ملكان عظيمان، مع كل واحد منهما مطرقة من حديد لو ضرب بها جبل لانهد، فيجلسانه، وترد عليه روحه، ويكون كهيئته في الدنيا، فيسألناه فيقولان له: ما كنت تعبد؟ وبأي دين كنت تتعبد؟ ومن الذي جاءك بهذا الدين؟ هذه الأسئلة الثلاثة لا بد منها لكل واحد كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الأصول الثلاثة التي يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلمها، فيتعلم أمور العبادة، ويتعرف على ربه سبحانه وتعالى، ورسوله الذي يأخذ الدين من طريقه؛ لأن كل عبادة لم يأت بها الرسول فهي باطلة مردودة؛ لأنها بدعة، والبدع ضلال، قال الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:٢ - ٤] يقول العلماء: هم أهل البدع الذين يتعبدون الله بالبدع، فيتعبون وينصبون، ويبكون ويخشعون، والنتيجة أنهم يصلون النار، لأنهم تعبدوا بغير دين الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:١٠٤].

فالمقصود: أن الدين -سواء كان عقيدة أو عملاً- لا يؤخذ إلا من الكتاب والسنة، وأما صفات الله فلا دخل للعقل فيها.

لهذا يقول علماء أهل السنة في عقائدهم: اتفق العلماء على أن أوصاف الله توقيفية، أي: تتوقف معرفتها على ما في النصوص فقط.