للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دليل آخر على علو الله تعالى على خلقه]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون كم بين السماء والأرض، قلنا: الله ورسوله أعلم قال بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم) أخرجه أبو داود وغيره].

هذا الحديث من أدلة علو الله جل وعلا على خلقه، وهذا أمرٌ قد تضافرت عليه أدلة الكتاب والسنة، وكذلك دلالة العقل مع دلالة الفطر التي فطر الله جل وعلا عليها خلقه، ولا يخالف هذا إلا ضال مخالف للحق اليقيني، وقد خالف كثيرٌ من الخلق ذلك فتأولوا النصوص الصريحة الواضحة التي جاءت في كتاب الله، وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، واتفقت عليها الأمة التي اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مخالفة النصوص الصريحة جرأة على الله جل وعلا، وجرأة على دينه، وكذلك تعطيل لصفاته التي تعرف بها إلى عباده، وهذا الحديث سرد من مجاميع كثيرة تدل على علو الله، ولكن المصنف اختاره لما فيه من الصراحة في ذكر المسافات بين الأرض والسماء، وبين كل سماء مع التي تليها، وكذلك ذكر صراحة المسافة التي تكون في كل سماء، أعني: سمكها وارتفاعها، ثم إنه ذكر أن الله فوق ذلك كله صراحة، أمر لا يحتمل تأويلاً، ولا يحتمل تحريفاً، فاختاره لأجل ذلك، وإلا فكتاب الله مملوءٌ من ذكر علو الله على خلقه، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:٥٤] في آيات متعددة، في سبع آيات من كتاب الله كلها فيها ذكر استوائه على العرش، مرتباً على خلق السماوات والأرض بـ (ثم) التي تقتضي الترتيب مع التراخي، وفي كتاب الله كثير من الآيات تدل على أن الله فوق خلقه، كما في قوله جل وعلا: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:١] في آيات متعددة، والنزول لا يكون إلا من العلو إلى الأسفل، وكقوله جل وعلا: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:٥٠]، وكقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:١٨].

ولو أن الإنسان أراد أن يحصي النصوص التي جاءت في فوقية الله وعلوه ما تهيأ له ذلك إلا بكلفة وبوقت، فكيف يجوز للمسلم أن يخالف هذه النصوص؟ وما السبب الذي يدعو إلى هذا؟ الواقع أنه ليس هناك إلا سبب واحد فقط، وهذا إذا كان المخالف مسلماً، أما إذا كان غير مسلم فالأمر غير هذا، فسبب قول المخالف المسلم هو ما يتوهم من التشريك، وهي أمور وهمية لا حقيقة لها، فهم يقولون: لو قلنا: إن الله فوق؛ لاقتضى ذلك أن يكون في جهة، والجهة تكون محصورة، وكل ما حوته الجهات فهو جسم.

فهذا هو السبب، وهذه هي الشبهة التي دعتهم إلى إنكار ما هو ثابت في كتاب الله، وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الشبهة باطلة داحضة؛ وذلك أن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في أوصافه التي يتصف بها، وقد بين لنا ربنا ذلك.

ثم إنه يجب على العبد أن يقبل من الله جل وعلا ما قاله وما علمه خلقه وعباده المؤمنين، وكذلك يقبل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الأدلة الواضحة على وجوب ذلك قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:٦٧]، فلو كان ما يقولونه حقاً، للزم منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما أنزل إليه، ومن اعتقد هذا فليس بمسلم فضلاً عن أن يكون على الحق الصواب الذي اختلف فيه؛ لأنه لم يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ الذي أخبرنا ربنا جل وعلا أنه بلغه، وقام بما يلزم، فلو كان ما يقولونه هذا حقاً للزم هذا الكفر -نسأل الله العافية-، وذلك أن الأمة التي امتثلت أمر الله، واتبعت الرسول صلى الله عليه وسلم شهدت لرسول الله صلى الله عليه سلم بالبلاغ المبين، وبالنصح التام، وبأنه لم يترك شيئاً يقرب الأمة للخير إلا ودلهم عليه، وبينه لهم، ولم يترك شيئاً يبعدهم عن الخير إلا حذرهم منه.

فقد كان في آخر حياته صلوات الله وسلامه عليه يسألهم: (أنتم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟ فيقولون: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، فيقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد)، وهذا أمر متواتر.

والمقصود أن هذا من الأدلة الواضحة على وجوب قبول ذلك واتباعه، والأدلة على هذا كثيرة.

ثم إن كل من احتاج إلى ربه لمسألة يسأله لابد أن يرفع يديه إلى السماء، يقول: يا رب! يا رب! ويجد لهذا دافعاً يدفعه في قرارة نفسه، فهو خلق على ذلك، ووضع في قلبه وفي عقله، فما يستطيع أن يكف نفسه عن هذا، وهذه الفطرة التي فطر الله جل وعلا عليها خلقه.

نحن نقول في صلاتنا: (سبحان ربي الأعلى)، وعلى مقتضى قول هؤلاء المبطلين الضالين يجوز أن نقول: سبحان ربي الأسفل! تعالى الله؛ لأنهم يقولون: إن الله في كل مكان.