للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كثف كل سماء وعمارها]

[المسألة الثامنة عشرة: كثف كل سماء خمسمائة سنة].

هذا بالإضافة إلى مسيرة المسافة التي بين سماء وسماء، والكثافة: هي سمك السماء؛ لأن كل سماء فيها سكان، وفيها عمّار يعمرونها بالطاعة، وعددهم لا يعلمه إلا الله، فالملائكة الذين فيها يعمرونها بالطاعة، وقد جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع قدم إلا وملك ساجد أو راكع)، وهذا ليس المقصود به السماء الواحدة، بل السماوات كلها.

وأخبر صلوات الله وسلامه عليه أنه لما عرج به رأى البيت المعمور، والبيت المعمور في السماء السابعة حيال الكعبة على الأرض، يقول: (فرأيته يدخله سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون إليه إلى يوم القيامة)؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعودوا لكثرة الملائكة، إنما يدخله الملك مرة واحدة ثم يترك الأمر لغيره، والملائكة هم جند الله الأعظم، وقد قال جل وعلا: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:٣١] لما ذكر أن النار عليها تسعة عشر من الملائكة الذين يقومون على إيقادها وتعذيب أهلها، فتقال الكفار هذا العدد، فصاروا يهزءون بالقرآن وبالرسول صلى الله عليه وسلم، يقول قائل منهم: أنا أكفيكم كذا عدداً، أكفيكم سبعة عشر.

أو قال: أكفيكم عشرة.

فالإنسان ظلوم جهول، والله جل وعلا وصفهم بأنهم غلاظ شداد، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

وأخبرنا جل وعلا أن ملكاً من الملائكة يطلع على الأمة القاهرة في البلاد المترامية الأطراف فيصيح صيحة فيهم فيموتون عن آخرهم بصيحة فقط، وعنده شيء أكثر من ذلك، وجبريل عليه السلام لما أتى إلى لوط ومعه عدد من الملائكة في صورة شباب حسان الوجوه فأضافهم إبراهيم وقدم لهم العجل الحنيذ المشوي فرأى أنهم لا يأكلون، فعند ذلك خاف منهم؛ لأن الذي يأتيك في صورة ضيف ثم تكرمه وتقدم له الطعام فيأبى أن يأكل لابد أنه مضمر شيئاً ويريد أمراً.

فعند ذلك خاف منهم وأوجس في نفسه خيفة منهم، فلما رأوا ذلك قالوا له: لا تخف؛ لسنا من بني أدم الذين يأكلون ويشربون، إنا أرسلنا إلى قوم لوط -يعنون أنهم ملائكة- ثم أتوا إلى لوط عليه السلام، ولوط هو ابن عم إبراهيم، وقد آمن بإبراهيم فجعله الله رسولاً، وأرسله إلى قومه، وكانوا قد ابتدعوا بدعة لم يسبقوا إليها، فكانوا يأتون الذكران من العالمين ويتركون أزواجهم، فنهاهم نبيهم فلم ينتهوا، وتمادوا في ذلك حتى أصبحوا إذا أتى إليهم آت تسارعوا إليه ليفعلوا به الفاحشة.

فلما جاءت الملائكة في صورة أضياف كان من تمام الفتنة والابتلاء أن جاءوا بصورة شباب حسان الوجوه، فجاءوا يهرعون مسرعين إليهم ليفعلوا بهم الفاحشة، فحاول معهم لوط عليه السلام بكل ممكن، حتى قال: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد)؛ لأنه يأوي إلى الله، وأي ركن أشد من ركن الله جل وعلا؟! ولكن المقصود أنه ضاقت عليه الأرض، وضاق بما فعل قومه، فلقد حاولوا فعل الفاحشة بأضيافة، وقال لهم: لا تخزوني في ضيفي، أليس منكم رجل رشيد؟! وما فيهم رجل رشيد في الواقع.

فعند ذلك لما رأى جبريل عليه السلام الأمر قد وصل إلى نهايته عند لوط قال له: لا تخف؛ لن يصلوا إلينا ولن يصلوا إليك، نحن رسل الله أتينا لتعذيبهم وإهلاكهم، فأومأ بطرف جناحه فطمس أعينهم فعموا، عند ذلك قال لوط عليه السلام: خذوهم الآن وأهلكوهم.

قالوا: موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب؟! وأمروه بأن يخرج من هذا البلد هو وأهله، وألا يلتفت إليهم بجسده لئلا يصيبه ما أصابهم؛ لأن الالتفات يدل على الحنو وعلى التعلق بهم، فالذي يتعلق بهم يخشى أن يصيبه ما أصابهم.

فلما جاء الوقت المحدد اقتلع جبريل عليه السلام المدن -وكانت سبع مدن- من الأرض، وحملها على طرف جناحه - وله أكثر من ستمائة جناح- فطار بها وعلا بها حتى كانت الملائكة الذين في العنان يسمعون نباح الكلاب وصياح الديكة، عند ذلك قلبها فجعل عاليها سافلها، ثم أمطروا بحجارة من سجيل على كل حجر اسم صاحبه الذي يرميه ويهلكه.

ثم قال الله جل وعلا بعد ذلك: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:٨٣] يعني: هذه العقوبة ليست من ظالمي هذه الأمة الذين يفعلون هذه الفعلة ببعيد، بل قريب.

ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان يكون في هذه الأمة خسف وقذف بالحجارة، فيقذفون مثلما قذف قوم لوط إذا فعلوا فعلهم، نسأل الله العافية.

فالمقصود أن الملائكة عظام شداد، فلو أذن لأحدهم أن يقتلع الأرض لاقتلعها كلها، ومع كثرتهم وقوتهم لا يعصون الله ما أمرهم من شدة خوفهم، فجبريل عليه السلام مع هذه العظمة وهذا الكبر الهائل والقوة الهائلة يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لما عرج به ووصل جبريل إلى سدرة المنتهى يقول: (رأيته خاضعاً لله ساجداً له كالحلس البالي) خضوعاً وذلاً لله جل وعلا؛ لأن من عرف الله كان له أخوف، وله أطوع.

فالمقصود أن عظمة السماء وسعتها وكبرها بهذه المثابة التي ذكرت، وذلك لما فيها من كثرة الخلق ومن كثرة العباد الذين خلقهم الله جل وعلا لطاعته، والملائكة قسم كبير جداً منهم خلقوا للعبادة فقط، ومنهم من خلق لوظائف معينة منها القيام على مصالح بني آدم، ومنها حفظهم، كما قال الله جل وعلا: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:١١]؛ لأن الملائكة تتعاقب عليه لتحفظه، فلو نام إنسان في البر بقي فمه مفتوحاً وأذنه مفتوحة، فتأتيه الهوام فيصدها الملائكة الذين يحفظونه فلا يدخل في فمه، ولا في منخره، ولا في أذنه شيء، فيحفظه الله بالملائكة، فإذا جاء القدر تخلوا عنه وتركوه، وسلموه لما قدره الله جل وعلا.

ومنهم الذين يحفظون أعماله، ويسجلون عليه كل ما نطق وتكلم به، ومنهم الذين يتولون قبض روحه، ومنهم الذين يتولون إنزال المطر، إلى غير ذلك مما ذكر الله جل وعلا من وظائفهم التي تكون في مصالح بني آدم.

ومنهم الذين لا نعرفهم، ولا نعرف إلا أنهم في الجملة عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أكرمهم الله جل وعلا بطاعته، فهم الذين يسكنون السماء، وهم كذلك يتولون المصالح التي تكون للمؤمنين حتى في الجنة، كما جاء في قول الله جل وعلا: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:٢٣ - ٢٤] فيسلمون عليهم ويحيونهم ويهنئونهم لدخلوهم الجنة وكرامة الله جل وعلا لهم.