للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نتيجة الاستعاضة عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم]

ومن القصص والحكايات التي وقعت في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في القرن السادس أن أحد كبار العلماء الذين توغلوا في الكلام، وصار لهم أثر كبير، وهو مشهور جداً، بل هو قطب من أكبر أقطاب المتكلمين، وهو معروف بإمام الحرمين الجويني، وسمي بإمام الحرمين لأنه جاور بمكة والمدينة أوقاتاً، وكان يعلم ويدرس في المسجد النبوي، وكان مذهبه مذهب أهل الكلام في نفي علو الله جل وعلا ولا يقر بذلك، فكان على كرسي في المسجد، وكان يقول: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، لا فوق، ولا تحت، ولا يمين، ولا شمال، ولا مداخلاً للعالم، ولا خارجاً منه، فقام رجل ممن كان حاضراً فوقف أمامه حتى تنبه له ورآه، وعند ذلك قال: عندي

السؤال

قال: نعم، قال: دعني من هذا الكلام الذي تقوله، كان ولا مكان إلى آخره، وأخبرني عن شيء أجده أنا في نفسي وتجده أنت وغيرك، والناس كلهم يجدونه، أخبرني عن الضرورة التي أجدها في نفسي ويجدها غيري، فعندما أدعو ربي أجد دافعاً يدفعني من داخل نفسي أني أطلب ربي من فوق، فمن أين جاءت هذه الضرورة؟ فوضع رأسه وجعل يفكر ثم صار يبكي، ونزل من على الكرسي، وقال: حيرني الرجل حيرني.

فلم يدر بم يجيب، وقد التبس عليه علمه الذي كان يقرره، وذهب بهذه الكلمة فحار.

وهكذا الذي يترك كتاب الله ويعتاض عنه بأقوال الرجال وأفكارهم ويجعلها هي مستنده في النتيجة فيحار.

ثم إن هذه الحيرة أصبحت ملازمة له حتى إنه لما حضرته الوفاة صار يوصي أصحابه ويقول: لا تشتغلوا بالكلام، والله لو كنت أظن أنه يصل بي إلى ما وصل ما اشتغلت به.

ويقول لهم عند وفاته: إنني لم أعلم حقيقة من الحقائق، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي.

ويقول: لقد تركت أهل الإسلام وعلومه، وخضت البحر الخضم، والآن إن لم يتداركني ربي فالويل لي.

ثم يقول: ها أنا ذا أموت على عقيدة عجائز نيسابور.

لأنه نيسابوري، ومات هناك، ولكن هل يمكن هذا؟ إنه لا يستطيع أن يموت على عقائد عجائز نيسابور؛ لأن العجائز على فطرة سلمت من الانحراف وسلمت من الشكوك، وما يستطيع الذي عنده شكوك وانحرافات أن يموت عليها.

ومن القصص الغريبة في هذا الموضوع أن هناك رجلاً آخر عظيماً أيضاً قد ملأت كتبه الدنيا، وهو معروف بـ الفخر الرازي، وله في التفسير وفي الفقه وفي الأصول وفي الكلام وفي غيرها من سائر العلوم، وكان أيضاً في نيسابور، فخرج يوماً من الأيام إلى السوق ومعه أكثر من ثلاثمائة تلميذ خلفه، فوقفت عجوز في بابها تتفكر، فقالت لأحد المارة: من هذا الملك -وكان تلميذاً من تلامذته-؟ فقال لها: ليس هذا ملكاً، هذا فخر الدين الرازي يقيم على وجود الله ألف دليل.

عند ذلك ضحكت العجوز وقالت: واعجباً! والله لو لم يكن عنده ألف شك ما احتاج إلى أن يتعرف إلى ألف دليل، وهل وجود الله يحتاج إلى أدلة.

إنه تعالى يعرف.

فالمقصود أن الذي يعتاض عن كتاب الله بالآراء والأفكار لابد أن يضل، وهو أيضاً قال في آخر كتاب ألفه -أعني: فخر الدين -: لقد جربت المناهج الكلامية والطرق الفلسفية، فلم أرها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق إلى الحق طريقة القرآن.

ثم جعل يمثل: اقرأ قول الله كذا، اقرأ قول الله كذا.

وهذا يدل على أنه رجع في آخر حياته عما كان عليه، وكذلك كان للفخر الرازي تلميذ من أبرز تلامذته وأذكاهم، وكان لهذا التلميذ صاحب ممن لم يسلك مسلك المتكلمين، بل ترسم طريق الكتاب والسنة، وكان يزوره، وفي مرة من المرات دخل عليه في بيته والرجل يتفكر، فسلم فلم يرد عليه السلام، ثم أعاد السلام فلم يرد السلام، ثم أعاده ثالثة فلم يرد عليه، عند ذلك قال: ما الذي دهاه؟ إن الرجل ليس في عقله.

فهم أن ينصرف لكونه يسلم على الرجل ولا يرد السلام، فعند ذلك تنبه ورفع رأسه إلى صاحبه الواقف الذي حار مما علاه، وبادره عندما رفع رأسه فقال: يا فلان! ماذا تعتقد؟ فضحك عليه صاحبه الواقف ساخراً منه، وقال: ماذا أعتقد؟ أعتقد ما يعتقده المسلمون.

فأطرق وجعل يبكي ويقول: ولكني والله ما أدري ماذا اعتقد في ربي.

فهذه نتائج الاشتغال في علم الكلام وكتب أهل الآراء الذين يعتاضون بآرائهم عن كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا يقول العلماء: أكثر الناس شكاً عند الموت الذين يشتغلون بالكلام.

فأكثر الناس شكاً عند الموت هؤلاء؛ لأنه عند حضور الموت تذهب البهارج ويذهب الباطل، ويبقى الحق، فالباطل الذي معهم يذهب فيحارون ويشكون، ويبقون في حيرة وشك.

وعلى كل فعلينا الاعتصام بكتاب الله، والله جل وعلا أمرنا بالاعتصام به في العقيدة وفي العمل، ففي العمل نعتصم به عن البدع، وفي العقيدة نعتصم به عن الانحراف الذي وقع لمثل هؤلاء وهو كثير.