للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأنبياء وقلة أتباعهم]

[الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء.

الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده].

يعني من الأنبياء.

فالذي لم يجبه أحد يأتي وحده، وهذا مثل لوط عليه السلام؛ فإنه لم يستجب له رجل واحد من قومه، فخرج من بلاد قومه التي كان يدعوهم فيها هو وبناته فقط، حتى زوجته كفرت به، ولهذا أخبر الله جل وعلا أنها في الغابرين وفي المدمرين، وأمره أن يخرج ويسري في قطع من الليل ببناته، وأن يتبع أدبارهم، فيكون خلف البنات، وألا يلتفت خلفه خوفاً من أن يصيبه ما أصابهم؛ لأن الالتفات يكون فيه شيء من العطف عليهم أو التعلق بهم، والله قطع العلاقة بهم، وقطع أن يكون بينه وبينهم صلة بالعطف أو بغيره، فقال له: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} [الحجر:٦٥]، وهذا في الواقع بعدما وقع في أشد الكرب من قومه، وهكذا الأنبياء إذا ضاقت الأمور إلى آخر حد جاءهم النصر وهلاك القوم، وهؤلاء كانوا -في الواقع- في فعلة ما فعلها أحد قبلهم، فكانوا يأتون الذكران من العالمين، فانتكست أخلاقهم، وانتكست أذواقهم، فأصبحوا يتركون الشيء الطيب الطاهر ويبحثون عن الخبيث المنتن القبيح لقبحهم، فلما تمادوا بهذا الشيء.

ولوط عليه السلام يدعوهم وينهاهم عن ذلك وهم يعيبون عليه بأنه من المتطهرين كان من تمام البلاء أن الله جل وعلا أرسل إليه جماعة من الملائكة في صور شباب حسان الوجوه، فلما علموا بذلك جاؤوا يهرعون إليه يريدون أن يفعلوا الفاحشة بهؤلاء، ولوط لا يدري أنهم ملائكة؛ لأنهم جاؤوا بصورة أضياف، كما كانوا عند إبراهيم كذلك، وصار يدافعهم ويعرض عليهم بناته، كما قال تعالى عنه: {قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر:٧١]، وقال تعالى عنه: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:٧٨]، فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:٧٩]، فلما انتهى به الأمر والكرب والشدة قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:٨٠]، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحم الله لوطاً؛ لقد كان يأوي إلى ركن شديد)؛ لأنه يأوي إلى ركن الله جل وعلا، وأي ركن أشد من ركن الله؟ فلهذا لما وصل إلى هذا الحد قال له جبريل عليه السلام وهو معهم: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:٨١]، عند ذلك قال: متى عذابهم؟ قال: {مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} [هود:٨١]، فقال: أريده الآن.

فقال له: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:٨١]، ثم أمره أن يمضي في الليل مع بناته ويخرج، عند ذلك تولى تعذيبهم جبريل عليه السلام، فاقتلع مدائنهم من أسفل الأرض، من تخوم الأرض، وطار بها على طرف جناحه وهي سبع مدن، حتى كانت الملائكة الذين في عنان السماء يسمعون نباح الكلاب وصياح الديكة، فقلبها وجعل عاليها أسفلها، ثم أمطروا بحجارة من سجيل، وصار لكل واحد حجر يصيبه ويقتله، ثم خسفت بهم الأرض، وصارت أبدانهم في الغرق ولكن أرواحهم في الإحراق في جهنم، ويوم القيامة أشد وأنكى، نسأل الله العافية.

فقال الله جل وعلا لما ذكر عقابهم: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:٨٣] يعني: هذه العقوبة ما هي من ظالمي هذه الأمة ببعيد، فإذا فعلوا كهذا الفعل سوف يصيبهم مثلما أصاب أولئك؛ لأن الله جل وعلا من كفر بأفضل الأنبياء عذبه أشد مما عذب من سبق، لا سيما وقد أبلغوا وأنذروا وحذروا، والله جل وعلا يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ لم يفلت، وإذا أخذ فأخذه أليم شديد، نسأل الله العافية.