للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دعاء غير الله شرك أكبر]

قال الشارح رحمه الله: [وفيه بيان أن دعوة غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي، كطلب الشفاعة من الأموات؛ فإنها ملك لله تعالى وبيده، ليس بيد غيره منها شيء، وهو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن لقي الله بالإخلاص والتوحيد من أهل الكبائر، كما يأتي تقريره في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى].

الشفاعة في الواقع هي أصل الشرك قديماً وحديثاً؛ لأنه لا أحد من الخلق يقول: إن أحداً من هذه التي تدعى ويتجه إليها مثل الله في التصرف وفي الإيجاد وفي الخلق أو في الذات أو في الصفات، لا أحد يقول هذا، وإنما يعتقدون أنها مقربة لهم عند الله، وأنهم إذا طلبوا منها شيئاً فهي تطلب بدورها من الله، والله يعطيها لكرامتها عليه، هذا هو أصل عقيدة المشركين قديماً وحديثاً، وقد بين الله جل وعلا أن هذا باطل، وأن الشفاعة لا تقع إلا بإذنه ولمن رضيه.

فالشفاعة التي جاءت في القرآن جاءت على قسمين: شفاعة منفية، وهي التي يزعم المشركون أنها تقع لأصنامهم ولمن يدعونه ولو لم يأذن الله جل وعلا، فهذه نفيت، قال الله جل وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:٤٣ - ٤٤]، فأخبر أن الشفاعة كلها له، ولا يوجد شفاعة يملكها غيره، وهذا لا ينافي كون الله جل وعلا يأذن لمن يشاء أن يشفع، ولكن إذنه بشفاعة الشافع لا يقع إلا بشرطين قد ذكرهما الله جل وعلا في القرآن: الشرط الأول: إذنه لمن يشفع أن يشفع كما قال جل وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥]، وهذا استفهام إنكاري، يعني: لا يمكن أن يقع هذا الشيء من شافع يشفع إلا أن يأذن الله له.

فهذا شرط.

الشرط الثاني: أن يكون الله راضياً عن المشفوع له، كما قال جل وعلا: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:٢٦].

فالإذن والرضا شرطان، يقول الله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:٣٨]، فقوله: (إلا من أذن له الرحمن) يعني: في الشفاعة، وقوله: (وقال صواباً) يعني المشفوع له قال صواباً، يعني: قال الحق وقال التوحيد، ورضي الله عنه.

فلا بد من هذين الشرطين، وبذلك يبطل ما يتعلق به هؤلاء الذين يزعمون أن أحداً من الخلق يشفع لهم ولو لم يأذن الله جل وعلا، وكثير من الناس يزعم أنه إذا اتجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه يكفيه هذا، وقد نشرت بعض الكتب التي يكتبها بعض من يعد من العلماء، وقال فيها: نحن نعبد الله ونعبد الرسول.

يصرح صراحة ويقول: نعبد الله ونعبد رسوله؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح:٩]، فجعل التسبيح للرسول كالتعزير والتوقير، وهذا فهم عجيب وكذلك يقول: إننا نتجه إلى الله وإلى رسوله، وإننا نطلب الشفاعة من الرسول.

ويجعلها مستقلة، وكذلك يقول هذا بعض الشعراء وغيرهم الذين جعلوا حظهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يمدحونه، كما يقول صاحب البردة: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم وأين الله؟ يعني: إذا ما أخذ الرسول بيده زلت قدمه.

ثم يقول: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم عجيب! يعني الدنيا والآخرة من جملة جود النبي صلى الله عليه وسلم، ومن جملة جوده ما خط في اللوح المحفوظ، وما خطه القلم الذي أمره الله جل وعلا أن يكتب كل شيء، إذاً: فماذا بقي لله جل وعلا؟! ما بقي له شيء، ثم يقول: ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم معناه: إني ألوذ بك من غضب الله.

وهذا شيء ما وصل إليه شرك المشركين، نسأل الله العافية، والعجيب أن كثيراً من الناس يجعل هذه القصيدة ورداً له يقولها مساء وصباحاً، ويتقرب بقولها وذكرها وحفظها وتلاوتها إلى الله جل وعلا، وهي شرك صريح، نسأل الله العافية، وكثير من الشعراء غير هذا هكذا يقولون، يأتي عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويكشف رأسه تعبداً ويقول في شكواه: هذه علتي وأنت طبيبي ليس يخفى عليك في القلب داء يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم ما في القلوب، وهو يزعم أنه من العلماء، وإذا أنكر عليهم منكر قالوا: هذا لا يحب الرسول، هذا لا يرى شفاعة الرسول وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن) حتى قال: (لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، ولماذا ذكر جحر الضب دون الجحور الأخرى؟ لأن الضب جحره من أعسر الجحور؛ فإنه يكون ملتوياً ويكون نازلاً إلى أسفل مع تلويه، فالدخول فيه صعب جداً، ويقول: لو دخلوا في هذا الحجر لدخلتم خلفهم، ويقول في الرواية الأخرى: (لو أن أحداً منهم أتى أمه على قارعة الطريق لكان من هذه الأمة من يفعل ذلك)، وهم قالوا: إن عيسى ابن الله، وقالوا: إنه الله، وقالوا: إنه ثالث ثلاثة، قالوا ذلك، ولكن هؤلاء ما تجرءوا أن يصرحوا بذلك، وإنما أخذوا المعاني التي هي لله جل وعلا وجعلوها للنبي صلى الله عليه وسلم دون الألفاظ، فهذا في الواقع أمر صعب، وصعوبته من هذا التركيب في هذا الكلام: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة) فكلمة (شيئاً) هنا نكرة عمت الشرك كله كبيره وصغيره وجليه وخفيه، تعم الكبير والصغير والخفي والظاهر، جميع الشرك، فمن لقي الله غير مشرك به في شيء من هذه الأمور دخل الجنة بدون أن يعذب؛ لأنه رتب الدخول على اللقاء، واللقاء يكون بعد المحشر، إذا بعثهم الله جل وعلا من قبورهم وجمعهم في صعيد واحد يقفون وقوفاً طويلاً في يوم عسير ثقيل، كما أخبر الله جل وعلا بأنه يوم عسير ويوم ثقيل، ولكننا ننساه، ثم بعد ذلك يأتي الله جل وعلا ليقضي بينهم، فكل واحد يلاقي ربه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) كل واحد يكلمه على كثرة الخلق، والعجيب أنه يكلمهم في لحظة واحدة كلهم، فهو سريع الحساب جل وعلا، وكل واحد يرى أنه يكلمه وحده وهو يكلم الخلق كلهم؛ لأنه جل وعلا لا يقاس تكليمه ولا فعله بفعل الخلق تعالى وتقدس، فإذا لقي الله وهو لم يشرك به شيئاً فبعد هذه المكالمة يذهب إلى الجنة بلا عذاب إذا كان لا يشرك بالله شيئاً.

الوجه الثاني الخطر كونه قال: (ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)، وهذا من الأدلة التي استدل بها من يقول: إن الشرك كبيره وصغيره غير مغفور لمن مات عليه، أما إن كان كبيراً فصاحبه خالداً في النار، وأما إن كان صغيراً فلا بد من تعذيبه، ولهذا قال في هذا الحديث: (ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)، فدل على أن الذي يلقى الله ومعه شيء من الشرك وإن كان صغيراً أنه يدخل النار، ثم بعد ذلك إذا كان الشرك صغيراً يخرج من النار إلى الجنة، أما إن كان كبيراً فيبقى فيها أبداً.

وهذا في الواقع يخاف منه، وهذا سبب إيراد المؤلف له في باب الخوف من الشرك؛ لأنه أخبر أن من لقي الله ومعه شيء من الشرك فإنه يدخل النار، وهو نص صريح واضح في هذا، ولكن هذا لمن مات من غير توبة، ولهذا قال: (من لقيه يشرك به شيئاً دخل النار) يعني أنه لقيه مصراً على هذا الشرك الصغير فإنه يدخل النار، أما إذا كان الشرك كبيراً فيكون خالداً فيها.