للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[توحيد العبادة وأهميته]

ثم هذه الأقسام الثلاثة أهمها وأعظمها قسم توحيد العبادة؛ لأنه وقع فيه الشرك، والشرك وقع في بني آدم قديماً، وسبب إرسال الرسل هو وقوع الشرك، وقبل وقوع الشرك ما كان للرسل حاجة، كان الناس على الطريق السوي وعلى الطريق المستقيم، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (كان الناس بعد آدم عشرة قرون كلهم على التوحيد، ثم طرأ الشرك فأرسل الله جل وعلا أول رسول إلى الأرض وهو نوح عليه السلام) قص الله جل وعلا علينا قصته، فأخبر جل وعلا في قصصه في مواضع متعددة أنه قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩]، فما قال: اعتقدوا أن الله متفرد بالكون وبالخلق وبالرزق وبالإحياء وبالإماتة وبالتدبير.

لأن هذا أمر معلوم عندهم لا يجهله أحد، قال: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩]، وكذلك قال هود الذي جاء بعده، قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٦٥]، وكذلك قال صالح: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٧٣]، وسائر الأنبياء كلهم قالوا هذا القول، كما قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل:٣٦] يعني: قائلاً لهم: {اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦]، والطاغوت سيأتي تفسيره ومعناه، وأنه كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، أو كل ما صد عن عبادة الله فهو طاغوت.

وأقول: هو من الطغيان، وهو تجاوز الحد، والخلق كلهم حد لهم حد، وهو أن يكونوا عباداً لله جل وعلا، فإذا تجاوزوا هذا الحد إلى ما هو من خصائص الرب جل وعلا صاروا طواغيت، ثم إن أنواع العبادة كثيرة جداً منها المحبة، وسيأتي بيان ذلك، فيجب أن تكون المحبة التي هي محبة التأله خالصة لله جل وعلا، وسيأتي إن شاء الله أن المحبة تنقسم إلى قسمين: محبة مشتركة بين الخلق -وهي أقسام كما سيأتي- مثل محبة المصاحبة والألفة، ومحبة الشفقة، وما أشبه ذلك من المحبة الطبيعية لا لوم على الإنسان في كونها تصدر منه، ولكن المقصود بالمحبة التي يجب أن تكون لله وحده محبة الذل والتعظيم، ولا يجوز أن يكون قلبك خاضعاً ذليلاً معظماً لهذه الأشياء التي تحبهن، هذا لا يجوز أن يكون إلا لله جل وعلا.

قال الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:١٦٥]، وهذا يدل على أنهم يحبون الله حباً شديداً، ولكنهم أشركوا بهذه الآلهة التي اتخذوها، وصارت المحبة مفرقة موزعة بين الله وبين هذه الأنداد {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:١٦٥ - ١٦٦]، والأسباب: المودة والمحبة، انقطعت عنهم وزالت، وأصبح بدلها عداوة، وكل واحد يلعن الآخر، العابد يلعن المعبود والمعبود يلعن العابد بعد هذه المحبة.

وإذا وجدت هذه المحبة فالذي يموت عليها يكون ممن لا يخرج من النار، كما في تمام هذه الآيات.

ومن أنواع العبادة الطواف، ولا يجوز للإنسان أن يطوف إلا بالبيت الحرام الذي أمر الله جل وعلا بذلك عبادةله، ولا نطوف بقبر ولا بحجر ولا بشجر ولا بمخلوق ولا بغير ذلك.

ومن ذلك الاعتكاف، فإنه عبادة كما أخبر الله جل وعلا أن العاكفين والراكعين والساجدين يجزيهم ويثيبهم، وقد أمر خليله أن يطهر بيته للعاكفين والراكعين الساجدين.

ومن ذلك الخوف، فيجب أن يكون الخوف الذي يسمى الخوف الغيبي -خوف السر الذي في سرك وفي غيبك- من الله وحده فقط، لا تخاف غائباً عنك إلا الله، فلا تخاف ميتاً، ولا تخاف جنياً، ولا تخاف من هو بعيد عنك وتقول: إنه يمكن أن يعرف ما في نفسي، هذا لا يجوز، كالذي يخاف الأموات، أو يخاف الولي الذي في القبر، يخاف -مثلاً- أنه إذا ما قدم له العبادة أنه يضره، والذي في القبر لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فكيف يملك ذلك لغيره؟! ومنها أيضاً: الذبح، فلا يجوز أن يذبح إلا لله جل وعلا، فإذا ذبح الإنسان لغير الله لجني أو إنسي أو قبر أو غيره فقد وقع في الشرك الأكبر الذي من مات عليه يكون خالداً في النار.

ومنها النذر، كأن ينذر نذراً لمخلوق أو لميت أو حي، فإن هذا شرك؛ لأن الله جل وعلا مدح الموفين بالنذر فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:٧]، فالنذر عبادة؛ لأن الله لا يمدح ولا يثني إلا على ما هو محبوب له ويكون عبادة، أما الشيء المباح مثل الأكل والشرب والنوم والجلوس ما يمدح الله عليه؛ لأنه أمر مباح ليس عبادة إلا إذا اقترن به نية طيبة تجعله عبادة.

ومن ذلك أيضاً الرجاء والتوكل والإنابة والاستعانة والاستغاثة والتوبة والخشية، وغير ذلك من أنواع العبادة، كلها يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا، وسيأتي تفصيل هذا مفرقاً.