للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان بداية دعوته صلى الله عليه وسلم]

الرسول صلى الله عليه وسلم في مبدأ دعوته كان مثل ما قال صلوات الله وسلامه عليه: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)، وذلك أن الإسلام بدأ بالرسول صلى الله عليه وسلم وحده فقط، وواحد كيف يعمل أمام أمة كافرة كلها لا تعرف شيئاً من الحق، بل هي على الباطل وعلى الكفر والشرك والظلم؟! وإن كان عندهم عقول في الواقع، والإنسان الذي يتأمل بعقله يعلم أنهم ليسوا على شيء.

كما ثبت في صحيح مسلم عن عمرو بن عبسة قال: (كنت في الجاهلية أرى أن الناس ليسوا على شيء وهم يعبدون الأصنام والشجر والحجر)، فهو رجل في البادية ما عنده علم ولا تعلم، ومع ذلك يقول: (كنت أرى أن الناس ليسوا على شيء)؛ لأن عقله وفطرته دلته على ذلك، قال: (فكنت أتخبر الأخبار وأسأل الناس الذين يأتون من هنا وهنا، وآتي موارد الماء وأسألهم: هل من خبر؟ هل من علم؟ وكل من سألت لم يخبرني بشيء، وفي يوم من الأيام جاء قوم من قبل مكة فقلت لهم: هل من خبر؟ قالوا: نعم.

رجل يخبر خبر السماء.

قال: فقعدت على راحلتي) يعني أنه ما استراح لما هم عليه، بل هو قلق مما هم فيه، فالله فطر الناس على كونهم يعبدونه.

قال: (فقعد ت على راحلتي- أي: ركب راحلته -وذهبت إلى مكة، فلما جئت إلى مكة إلى هذا الذي يخبر خبر السماء: وسألت عنه فإذا الناس عليه جرآء) أي: كل واحد عليه جريء يعني أنهم يؤذونه ويشتمونه ويتكلمون فيه.

يقول: (فخفت وتلطفت -أي: صار لا يسأل، وإنما يتحسس يبحث عنه وهو مختف صلوات الله وسلامه عليه- حتى دخلت عليه فوجدته مختفياً في بيت، فقلت: ما أنت؟ قال: (أنا نبي.

قلت: وما نبي -أي: أنه لا يعرف كلمة نبي-؟ فقال: أرسلني الله.

فقلت: وبم أرسلك؟ قال: أرسلني بأن يُعبد الله وحده، وبمحق الأصنام والأزلام.

فقلت: ومن معك على هذا؟ فقال: معي حرٌ وعبد، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال، فقلت له: إني متبعك) فرجع إلى قومه حتى سمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة فجاء إليه.

قال: فقلت له: أتعرفني؟ فقال: (نعم، أنت الذي أتيتني بمكة)، وذكر بقية الحديث.

والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى قومه وحده على الإسلام، فهل يسوغ أنه يؤمر بالقتال أو يؤمر بالقوة؟! لو قاومهم بالقوة لقضوا عليه، ولقتلوه عند أول وهلة، مع أنه واثق بوعد الله جل وعلا له تمام الثقة، ولهذا توعدهم وهو وحده، وقال: والله! إن لم تؤمنوا بي فسوف ينصرني الله جل وعلا عليكم، وأقتل رجالكم وآخذ أموالكم.

وهل يمكن أن يقول هذا عاقل وهو غير واثق؟! بل هو وحده، وليس معه جنود ولا دولة تحميه، ولكن كان معه الله جل وعلا، وهو الذي يحميه، ولكن المقصود: أن الإنسان إذا جاء وحده بهذا الأمر وصدع به بدون خوف فإنه يدل على أنه نبي من عند الله، كما قال هود عليه السلام لما قال له قومه: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود:٥٣] يقولون: لماذا نترك عبادة الآلهة والأصنام وغيرها والأشجار وغيرها؟ ألأنك قلت لنا: هذا شرك، اعبدوا الله؟ لا نتركها عن قولك.

ثم قالوا في مجادلتهم إياه: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:٥٤]، أي: هذا قولنا: إن آلهتنا أصابتك بجنون فأصبحت تخالفنا كلنا وتأتي بشيء غريب عند ذلك قال لهم: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:٥٤ - ٥٥]، يعني: اجتمعوا أنتم كلكم مع آلهتكم فافعلوا ما تستطيعون فعله نحوي من قتل أو سجن أو تعذيب، لن تصلوا إلي، لهذا {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:٥٥]، تحداهم جميعاً مع أنهم عاد الذين أوتوا من القوة ومن الجبروت ومن عظم الأجسام ما ذكره الله عنهم، ومع ذلك ما استطاعوا أن يفعلوا به شيئاً.

وكذلك الله جل وعلا أمر رسوله أن يقول لمشركي قريش هذا.

ويتحداهم بذلك، وكل رسول يتحدى قومه بأن يكيدوه ولا ينظرونه، أما كونهم حاولوا قتله فنعم، ولكن هذا هي سنة الله، ولما جاءهم بالدعوة تبين لهم الحق كلهم إلا إنسان معرض، والمعرض لا عبرة به، أما الذي يتأمل قوله ويتأمل ما جاء به، فلابد أن يتبين له الحق.

ولهذا يقول المسور بن مخرمة رضي الله عنه -والمسور بن مخرمة خاله أبو جهل -: قلت لخالي: يا خال! أكنتم تتهمون محمداً قبل أن يقول مقالته بالكذب؟ فقال: يا ابن أخي! والله لقد كنا نسميه وهو شاب الأمين، ووالله ما جربنا عليه كذبة واحدة، ولم يكن عندما خطه الشيب ليكذب على الله جل وعلا يقول المسور: فقلت: يا خال! ولمَ لا تتبعونه؟ فقال أبو جهل: إننا وبنو هاشم تسابقنا، أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، وأجاروا فأجرنا، فلما تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي.

متى ندرك هذا؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه.

يعني: ما منعه إلا الحسد والكبر، وكل من لم يسلم كان على هذه الطريقة.

ذكر ابن إسحاق رحمه الله في السيرة والبيهقي في الدلائل وغيرهما من العلماء عن عدد من كبراء قريش مثل: أبي جهل، والأخنس بن شريق، وأبي سفيان، وغيرهم ممن سماهم ابن إسحاق من كبراء قريش، قال: كانوا إذا جنّهم الليل ذهبوا يستمعون قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل واحد يكون في مكان لا يدري عنه الثاني في ظلمة الليل، فيبقون يستمعون له إلى الصباح، وفي أول مرة استمعوا له حتى أصبحوا فرجعوا فالتقوا في الطريق فلام بعضهم بعضاً، وقالوا: لو رآكم سفهاؤكم لتسارعوا إلى اتباعه فلا تعودوا إلى مثلها.

وفي الليلة الثانية عادوا، وكل واحد يقول: لعل الآخر لا يعود.

فالتقوا ثم تلاوموا، ثم عادوا في الليلة الثالثة، ثم تلاوموا كذلك، ثم عادوا في الليلة الرابعة، وبعد ذلك تماسكوا.

وقالوا: لا نبرح من هنا حتى نتعاهد على ألا نعود.

فتعاهدوا وتعاقدوا على أنهم لا يأتون مرة أخرى يستمعون إليه خوفاً من أن يراهم الناس الذين ليسوا رؤساء فيقتدون بهؤلاء ويتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم مشى بعضهم إلى بعض فقال كل واحد للآخر: ما ترى؟ فيقول: والله إني لأسمع شيئاً أعرفه، ووالله إنه لحق فيعترفون أنه حق، وفي النهاية قالوا: لن نتبعه فلم يتبعوه لأنه ليس من قومهم، وقد كانوا يتنافسون الشرف فأبوا اتباعه.

والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم بقي في مكة ما يقرب من اثنتي عشرة سنة وهو يدعو إلى توحيد الله جل وعلا، وهو يتحمل الأذى ويصبر على ما يناله، ولم يؤمر بالقتال، بل يقول الله جل وعلا له: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج:٥] يأمره بالصبر، ويأمره بالتحمل والدفع بالتي هي أحسن، حتى هاجر إلى المدينة وصار له قوة وأنصار ودولة، وصار له رجال يدافعون عن الحق معهم قوة عند ذلك أمره الله بالقتال.

وهكذا ينبغي للداعية أن يكون على نهج النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يذهب إلى قومٍ يتحداهم ويهددهم ويتوعدهم وهو لا يستطيع أن يملك شيئاً، بل يجب أن يترسم طريق الرسول صلى الله عليه وسلم في المنهج، وكذلك فيما يدعو إليه في القول والعمل، فإن فعل ذلك فهو في الواقع ناجح.

وليس مهمة الداعية أن الناس يستجيبون له، فالاستجابة إلى الله، وإنما مهمته أن يبين الحق، فإن قُبل حمد الله على ذلك، وإن لم يُقبل الحق منه صبر واحتسب وعلم أن العباد عباد الله هم ملك الله يتصرف فيهم، فهو يتصرف في الجميع جل وعلا كيف يشاء.