للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

معنى حديث: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب)

قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله-، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنياءهم فترد على فقراءهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، أخرجاه].

هذا الحديث في الصحيحين، وهو عن ابن عباس في قصة بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، وبعثه صلوات الله وسلامه عليه كان في السنة العاشرة كما ذكر ذلك البخاري رحمه الله في كتاب المغازي، ولم يكن معاذاً وحده، بل بعث معاذاً وأبا موسى وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ولكن كل واحد بعثه إلى جهة من اليمن، وبعثه داعياً ونائباً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم والقضاء، ولهذا قال: لما بعث معاذاً وكلمة البعث جاءت ويراد بها أمور في اللغة، فقد يراد بها بعث البعير، أي: إثارته.

وكذلك (بعث الصيد): إذا أثاره ليصطاده، وقد يراد به إحياء الموتى، كما قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:٧]، و (الله يبعث من في القبور) يعني: إخراجهم أحياءً بعدما صاروا رفاتاً وتراباً ويراد به الإرسال إلى جهة من الجهات، فيقال: بَعث فلان فلاناً ومنه أن الله بعث رسله، أي: أرسلهم، وهذا مثل قوله هنا: (لما بعث معاذاً) أي: لما أرسله إلى اليمن رسولاً له فـ معاذ هو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبلغ عنه وينوب عنه في الحكم والدعوة إلى الله.

ثم أرشده إلى ما ينوب فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب)، وقد عرفنا أنه بعثه في السنة العاشرة من الهجرة، وهي السنة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه توفي في ربيع في تلك السنة.

ولهذا جاء في هذا الحديث في بعض الروايات أنه لما خرج معه يودعه -ومعاذ راكب والنبي صلوات الله وسلامه عليه يمشي- قال معاذ: يا رسول الله! إما أن تركب وإما أن أنزل.

فقال: (لستَ بنازل ولستُ براكب.

ثم قال له: لعلك لن تراني بعد اليوم)، فعند ذلك بكى معاذ رضي الله عنه، وعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قرب أجله، فقال له: (لا تبك)، ثم أوصاه.

ومعاذ رضي الله عنه من سادات الصحابة وكبرائهم وعلمائهم، وقد جاء في سنن النسائي وسنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ! إني أحبك)، فهو ممن يحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم زيادة على غيرهم، وقال له في حديث آخر: (إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وجاء أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: (يحشر معاذ أمام العلماء برتوة يوم القيامة).

والرتوة: قيل: إنها المكان المرتفع فهو في مرتفع عليهم، وقيل: إنها رمية حجر، أي: يتقدم العلماء.

ولهذا جاء أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وثبت عن ابن مسعود أنه كان يقول: (إن معاذاً أمة قانت لله)، فقيل له: إن إبراهيم كان أمةً قانتاً فقال: (كنا نشبه معاذاً بإبراهيم)، وهو أنموذج من النماذج الكثيرة لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.

فلما أرسله إلى اليمن بقي فيها حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع في خلافة أبي بكر لما استخلف، ثم ذهب إلى الشام للقتال في سبيل الله، فمات في الشام في الوباء الذي حدث فيه والذي سمي (طاعون عمواس)، مات هو وولده عبد الرحمن، وكان ولده من أحب الناس إليه، ولما سارع بعض الناس ليفر قال: مالكم؟ أتفرون من قدر الله؟! هذه رحمة يرسلها الله جل وعلا على عباده يرحم بها من يشاء، ثم قال: اللهم اجعل لي من رحمتك نصيباً، اللهم اجعل لآل معاذ من رحمتك نصيباً.

فأصيب ولده فمات، وكان ممن يلازمه ومن الذين يأخذون عنه العلم، ثم أصيب هو رضي الله عنه.

ولما قربت وفاته صار يسأل من عنده ويقول له: انظر هل أصبحنا؟ فقال: لا، ثم سأله مرة أخرى، ثم سأله ثالثة، فقال: نعم، فقال: أجلسني.

فأخذ بيده وأجلسه فرفع يديه إلى الله وقال: اللهم إني أعوذ بك من ليلة صبيحتها إلى النار، اللهم إنك تعلم أني أحبك، اللهم إنك تعلم أني لا أحب البقاء في الدنيا لحفر الأنهار ولا لغرس الأشجار، وإنما لظمأ الهواجر ومزاحمة العلماء بالركب).

والمقصود أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بالاتفاق، غير أنهم اختلفوا فمنهم من قال: في السنة العاشرة.

ومنهم من قال: في السنة التاسعة.

كـ الواقدي، وكذلك ابن سعد، والصواب أنه في السنة العاشرة.

ثم قوله: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) المقصود بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وهذا هو الذي تعورف عليه، وهم أهل كتاب، أي: أهل كتاب سماوي جاء من السماء، وإن كان وقع فيه من التحريف والتبديل، ولكن عندهم علم، وهذا يدلنا على أن دعوة العالم للذين عندهم علم لا تكون كدعوة الجهال الذين ليس عندهم علم، والسبب في هذا أن الذي عنده علم يكون عنده حجج وعنده شبه فيحتاج إلى المجادلة وإلى كشف الشبه عنه، ولهذا ذكر ذلك له ليتهيأ ويستعد.

ومعلوم أن أهل الكتاب ليسوا كالوثنيين العرب الذين في اليمن، وإن كان أكثر من كان في اليمن هم من الوثنيين العرب، وأهل الكتاب أقل منهم، وسواء أكانوا يهوداً أم نصارى، والنصارى جاؤوا من الحبشة، واليهود قيل: إنهم ذهبوا من المدينة إلى اليمن وبقوا هناك وتكاثروا، ولا تزال بقاياهم إلى اليوم في اليمن.

والمقصود أنه قال: (فليكن أولَ ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)، وهذا يدلنا على أن الذي يجب على الداعية أن يصحح العقائد أولاً، فلا يذهب إلى الناس ويقول: صلوا وزكوا وحسنوا أخلاقكم واتصلوا بالله بالتهجد وغير ذلك وعقائدهم خاربة؛ لأن أي عمل يعملونه إذا كانت العقيدة ليست صحيحة فلن يفيد، بل العمل عمل فاسد، ومعلوم أن الذي يريد أن يبني بيتاً يبدأ أولاً بالأساس ويقويه ويجعله متيناً ثابتاً قابلاً لما يوضع عليه، فإذا كان الأساس غير صحيح فإنه ينهار البناء ويفسد، والذي ليس عنده عقيدة ليس عنده أساس، فبناؤه مثل الذي يبني على الماء، والبناء على الماء لا يثبت أبداً، ولهذا ذكر الله جل وعلا لنا هذا عن جميع الرسل، وأن كل رسول كان يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩]، فكان أول ما يقول لهم: (اعبدوا الله)، وخاتمهم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولو الا إله إلا الله)، وقبل أن يؤمر بالقتال كان يقول لهم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) هكذا كان يقول لقريش، ويقول: (بعثني ربي بأن يعبد وحده ولا يشرك به شيء)، وكان يمشي بهذا على الناس في موسم الحج؛ لأن العرب وإن كانوا مشركين، فقد كانوا يأتون إلى الحج في الموسم، وكانوا قبائل كل قبيلة تكون في مكان منحازة عن القبيلة الأخرى، فكان يمشي على القبائل قبيلة قبيلة ويقول: (من رجل يأويني إلى قومه حتى أبلغ رسالة ربي -وفي رواية: كلام ربي-؟ وإذا سئل فقيل له: ما هي الرسالة يقول: جئت بأن يعبد الله وحده لا يشرك به شيء)، فهذا الذي يجب على الداعية أن يعتني به كثيراً، فهذا هو أول ما يبدأ به إقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثالاً لأمر الله جل وعلا في قوله {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:١٠٨]، فهذه هي دعوته صلوات الله وسلامه عليه.

ثم إذا الإنسان ترسم هذا الطريق الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يسير عليه فإنه يكون على بصيرة من ذلك، بخلاف الذي يبتدع طرقاً ويأتي بها ويسميها (منهج الدعوة) أو ما أشبه ذلك، فإن هذا غالباًَ يكون غير مجد، وإذا نفع نفعاً ما فيكون نفعه في شيء معين.

والمهم أن الداعية يجب أن يدعوا إلى التوحيد والإخلاص وترك الشرك، والأمور التي تقدح في عبادة الله جلا وعلا يبينها للناس ويوضحها وينهاهم عنها بالعلم والبيان الذي يُقتنع به، ولهذا قال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)، وفي رواية يقول: (إلى أن يوحدوا الله -أو إلى أن يعبدوا الله-)، وهذا أراد به أن يبين فيه معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن تكون العبادة له وحده، وأن يجعل العمل لله وحده، ولا يكون العمل لأحد غيره.

ثم بعد ذلك قال: (فإن هم أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات)، فرتب دعوتهم لإقامة الصلاة وأداء فرض الله فيها على إجابتهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فدل على أنهم إذا لم يستجيبوا إلى ذلك لا يدعون إلى الصلاة، وهكذا ما بعدها: (فإن هم أجابوك إلى ذلك) أي: إلى شهادة أن لا إله إلا الله.

وقد عرفنا ما معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن معناها أن يعبد الله وحده، وأن يكون الإنسان متألهاً بقلبه وحبه وتعظيمه لله وحده، لا يحب حب الذل والخضوع والتعظيم إلا الله، ولا يتجه بالدعاء والرجاء والخوف والإنابة إلا إلى الله وحده، فهكذا جميع العبادة داخلة في هذه الكلمة (لا إله إلا الله).