للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[الشرك في الربوبية]

الشرك في الربوبية ينقسم إلى قسمين: قسم يسمى شرك التعطيل، وهو أقبح الأقسام وأعظمها جرماً وأخبثها، وهو شرك فرعون الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨]، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، وقال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٢٣]، فعندما جاءه موسى قال: (وما رب العالمين)؟ أي: أنه أنكر وجود الله جل وعلا، وهذا على سبيل المكابرة والتجبر والعناد والإيذاء، وإلا فهو في الواقع مقر بذلك؛ لأن الأمر في هذا واضح وظاهر جداً، لا يخفى على من عنده أدنى عقل.

فلا يخفى أنه لا موجود إلا وله موجِد، ولو نظر الإنسان إلى نفسه فمن الذي أوجده؟ هل أبوه خلقه أو أمه خلقته أو هو خلق نفسه؟ لابد أن يكون له خالق قدير متصرف كامل الإرادة كامل المشيئة تعالى وتقدس، كما قال الله جل وعلا: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:٣٥]، يعني: هل يمكن أن يوجد هذا المخلوق بدون أن يكون له خالق؟ لا يمكن هذا لا يُعقل، ولا يقر به حتى الأطفال، الطفل الصغير إذا ضربه ضارب وبكى فقلت له: ما ضربك أحد لا يقتنع بهذا؛ لأن كل حدث له محدث، وهذا أمر فطري، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:٣٥]، ولهذا أمرنا الله جل وعلا بالنظر إلى أنفسنا: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١] يعني: في أنفسكم آيات تفكروا فيها، أفلا تبصرون؟ وأمرنا أن ننظر في أصلنا فقال: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس:١٧ - ٢٠]، وجاء هذا مكرراً في القرآن كثيراً، يأمرنا ربنا جل وعلا أن ننظر في أصل خلقنا؛ لأنه كان نقطة من ماء، فكيف يخلق منها لحم وعظام وأعصاب، ثم سمع وبصر وعقل وأرجل وأيدٍ، وذكر وأنثى؟ هل أحد يستطيع ذلك؟ لا.

فهو من أكبر الأدلة على وجود الله جل وعلا.

وآيات الله في الأنفس ظاهرة وواضحة، كما أن آياته جل وعلا في الآفاق من حولنا ولما يجري حولنا في السماء والأرض والنجوم والجبال والأنهار وغيرها واضحة جلية، فنقول: إن الشرك في هذا لا يكون إلا عناداً أو إعراضاً، والإعراض هو عدم الاهتمام.

ومن هذا الشرك شرك ملاحدة اليوم الذي يقولون: الحياة مادة، فلا يوجد خالق، ولا توجد إعادة، ولا توجد جنة ولا نار يكفرون بالله جل وعلا وينكرون وجوده، فهم واقعون في الشرك الأعظم، وهم في الواقع لم يستعملوا عقولهم ولا ما حولهم من الآيات ولم يتفكروا في أنفسهم.

ومن ذلك شرك أصحاب وحدة الوجود الذين غلفوا شركهم بشيء من محاسن الإسلام، فخفي أمرهم على خفافيش الأبصار، فجعلوهم من أكابر الأولياء وأكابر الأتقياء والسعداء، وهم من أعظم المجرمين وأكابر الكفار والمشركين، كـ ابن عربي والعفيف التلمساني وابن الفارض والحلاج، ومن أشبه هؤلاء الذين جعلوا الله هو الوجود كله، خنازيره وكلابه وأوادمه وكل شيء، كما يقول رئيسهم: العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف؟ إن قلت عبد فذاك رب وإن قلت رب فأنى يكلف؟ ويقول: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه لأنه يعتقد أن النظم كلام الله، والشعر كلام الله، واللحن كلام الله، ونبح الكلاب كلام الله، إلى غير ذلك، وهكذا يقول أصحابه، ثم يأتي قوم ويقولون: هؤلاء من أكابر الأولياء والأتقياء! ومن ذلك شرك النصارى الذين قالوا: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:٣٠]، وكذلك اليهود الذين قالوا: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:٣٠].

ومنه شرك المجوس الذي جعلوا التصرف إلى إلهين: إله الظلمة وإله النور، وقالوا: إن الإله المحمود المعبود هو إله النور، فهو الخير الذي يحب الخير ويأمر به ويريده؛ ولهذا يعبدون النار لأنها هي أصل النور عندهم، وهذا شرك في الربوبية.

القسم الثاني من شرك الربوبية الشرك الأصغر، مثل شرك الألفاظ، كقول الإنسان: لولا الله وأنت، لولا الله وفلان، وقوله: ما شاء الله وشئت، وكذلك الحلف بغير الله وما أشبه ذلك، فإن هذا شرك في الربوبية، وقد يكون هذا شركاً أكبر على حسب ما يقوم في قلب القائل وعقيدته، فهذا الشرك في الربوبية.