للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من دلائل صدقه صلى الله عليه وسلم]

والواقع أن العلامات كثيرة وهي لا تخفى على العاقل، مثلما قال عبد الله بن سلام: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ورأيت وجهه علمت أنه صادق.

فما أن رأى وجهه حتى علم أنه صادق؛ لأنه إذا قال إنسان: أنا نبي أرسلني الله فلا يخلو إما أن يكون أصدق الناس وأبرهم، أو هو أفجر الناس وأكذبهم، فهل يلتبس أفجر الناس وأكذبهم بأصدق الناس وأبرهم؟! أبداً لا يلتبس؛ لأن الذي يقول: أنا نبي إما أن يكون صادقاً فيكون هو أبر الناس وأعلمهم بالله وأقربهم إليه، أو يكون كاذباً فيكون هو أكذب الناس وأفجرهم؛ لأن الذي يكذب على الله لا يبالي أن يكذب على الخلق.

ولهذا لما أرسل كتابه صلوات الله وسلامه عليه إلى هرقل ملك الروم يدعوه إلى الإسلام أرسله بلغته صلوات الله وسلامه عليه، فكتب كتاباً وصورته: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، أما بعد: فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثمك وإثم الأريسيين، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: ٦٤]).

هذه صورة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فلما جاءه أمر بالترجمان فقرأه ثم اهتم به كثيراً، ثم قال: اطلبوا لي أناساً من قومه ممن يعرفونه.

فطلبوا فوجدوا أبا سفيان ومعه بعض أصحابه، وكان مشركاً في ذلك الوقت لم يسلم، كان أبو سفيان على دين قومه، وكان يجب أن لا ينتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يظهر أمره، ويسعى إلى ذلك، فجيء به إلى هرقل، وأجلسه قريباً منه وأجلس أصحابه خلفه، وقال لترجمانه: قل لهم: إني سائله، فإن صدقني فصدقوه، وإن كذبني فكذبوه.

فصار يسأله، فقال: أخبرني عن هذا الرجل هل هو ذو نسب فيكم؟ فقال: هو من أشرفنا نسباً.

فقال: هل كنتم تتهمونه قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا.

بل كنا نسميه الأمين، ولم نجرب عليه كذبة واحدة.

فقال: هل كان سبقه أحد دعا إلى قوله؟ فقال: لا.

فقال: هل كان في آبائه من ملك؟ فقال: لا.

فقال: من يتبعه؟ قال: يتبعه ضعفاء الناس وسقطهم، وأما أشرافهم وكبراؤهم فأبوا.

فقال: فكيف الأمر بينكم وبينه؟ فقال: الأمر بيننا وبينه سجال، مرة يدال علينا ومرة ندال عليه.

وهذا كان فيما يظهر بعد وقعة أحد إلى آخر الكلام، ثم بعد ذلك قال له هرقل: لئن كنت صادقاً فيما تقول والله ليملكن ما تحت قدمي هاتين -وهو بالشام-، ولو أقدر عليه لذهبت إليه حتى أغسل رجليه وأحمل نعليه.

ثم قال له: سألتك هل كنتم تهتمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا.

فعلمت أنه لن يترك الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله، ثم سألتك: هل هو ذو شرف ونسب في قومه فأخبرتني أن: نعم.

وهكذا الأنبياء تبعث في أشراف قومها، وسألتك: هل سبقه أحد بأن دعا مثل دعوته أو قال مثل قوله فزعمت أن: لا.

فقلت: لو أن أحداً سبقه إلى هذا لقلت رجل يقتدي بمن سبقه، وسألتك: هل كان في آبائه من ملك فأخبرتني أن لا، فقلت: لو كان في آبائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك آبائه، وسألتك من يتبعه؟ فأخبرتني أنهم الضعفاء.

وهكذا الأنبياء أتباعهم الضعفاء، أما الكبراء والملأ فإنهم يكفرون بهم؛ لأن الله جل وعلا يقول له: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:٩] يعني: لست أول من يأتيكم، انظروا إلى دعوة الرسل السابقين، انظروا فيها وقايسوا.

وكل هذا يدل على رجاحة عقله، وأن في الواقع نظراً صحيحاً، والمقصود أن دلائل نبوته صلوات الله وسلامه عليه كثيرة.