للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شهادات النبي صلى الله عليه وسلم لكثير من الصحابة بالإيمان والجنة]

قال الشارح: [وقوله: (أيهم يعطاها) هو برفع (أيُ) على البناء؛ لإضافتها وحذف صدر صلتها.

قوله: (فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها).

وفي رواية أبي هريرة عند مسلم أنَّ عمر رضي الله عنه قال: (ما أحببت الإمارة إلا يومئذ).

قال شيخ الإسلام: إن في ذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بإيمانه باطناً وظاهراً، وإثباتاً لموالاته لله تعالى ورسوله، ووجوب موالاة المؤمنين له، وإذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم لمعين بشهادة أو دعا له أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد بذلك لخلق كثير، ويدعو لخلق كثير، وهذا كالشهادة بالجنة لـ ثابت بن قيس وعبد الله بن سلام، وإن كان قد شهد بالجنة لآخرين، والشهادة بمحبة الله ورسوله للذي ضرب في الخمر].

ثابت بن قيس بن شماس هو خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جهوري الصوت، يتكلم فيكون صوته عالياً، فلما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:٢] عند ذلك خاف وقال: إذاً أنا المعني بهذه الآية؛ لأني أجهر بصوتي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذاً قد حبط عملي.

فجلس يبكي في بيته، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه فقيل له: إنه يقول كذا وكذا.

فقال: (بل هو من أهل الجنة)، وأمر به أن يؤتى به، فصارت هذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة.

وكذلك عبد الله بن سلام شهد له أيضاً عند رؤيا رآها فقال: (هو من أهل الجنة).

وغير هذا كثير حين شهد لأناس فأخبرهم بأنهم في الجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم، (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة) حتى عد عشرة، ولهذا يسمونهم العشرة المشهود لهم بالجنة، بل جاء أنه قال: (لا يدخل النار من بايع تحت الشجرة)، وهذه شهادة لهم بالجنة، والذين بايعوا تحت الشجرة ألف وأربعمائة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك لما كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى الكفار يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله جل وعلا أن يعمي على قريش أمره حتى يبغتهم في بلادهم؛ لأنهم نقضوا عهده الذي كتبه بينه وبينهم في الحديبية، حيث ظاهروا على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة، وقتلوهم ركعاً وسجداً كما قال شاعرهم، ثم جاؤوا يطلبون تمديداً؛ لأنهم أحسوا أنهم نقضوا العهد فأرادوا تجديده وتمديد الوقت، فلم يجبهم بشيء، ولم يكلم رسولهم بشيء، بل كل الصحابة لم يكلموه، جاء أبو سفيان إلى أبي بكر فلم يكلمه بشيء، ثم جاء إلى عمر فقال له: والله لو لم يكن معي إلا الذر لقاتلتكم.

وجاء إلى علي فقال له: اذهب إلى المسجد فقل: إني مددت الوقت ووضعت كذا وكذا ثم اذهب.

فجاء إلى المسجد فتكلم بهذا الكلام، فلما رجع إلى قومه قالوا: ماذا وراءك؟ فقال: ما وجدت من يجيبني غير أن علي بن أبي طالب قال لي كذا وكذا ففعلته فقالوا: ما زاد على أن ضحك عليك.

فتجهز الرسول صلى الله عليه وسلم وسأل ربه أن يعمي عليهم أمره حتى يبغتهم في بلادهم، فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً وأعطاه امرأة فيه: أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاكم والمسلمون بجنود لا قبل لكم بها، فجاءه الخبر من السماء، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر الكتاب، فأمر الزبير وعلي بن أبي طالب ودعاهما وقال: (اذهبا إلى روضة خاخ تجدان فيها ظعينة معها كتاب، فائتياني بالكتاب)، فذهبا على فرسيهما إلى تلك الروضة، فوجدا المرأة معها غنم له، فقالا لها: الكتاب.

فقالت: ما معي من كتاب.

فقالا لها: والله ما كَذَبْنا ولا كُذِّبنا، لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب.

أي: نخلع ثيابك ونفتشك؛ لأنه لابد أن معها الكتاب.

فلما رأت الجد أخرجت الكتاب من عقيلتها من تحت شعرها قد وضعته هناك، فجاءا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بقراءته، ثم استدعى حاطباً فقال: ما هذا؟ فقال: يا رسول الله! لا تعجل، والله ليس شكاً مني ولا حباً لهم، ولكني رجل ملصق فيهم، وكل من معك لهم من أقربائهم من يحمي ذويهم وأموالهم إلا أنا، فأردت أن أتخذ عندهم يداً وقد علمت أن الله ينصرك.

فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق.

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك؟ إنه شهد بدراً، وإن الله قال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فأهل بدر كذلك.

ومرة جاء إليه صلوات الله وسلامه غلام لـ حاطب فقال: (والله ليدخلن حاطب النار فقال: (كذبت.

لا يدخل النار؛ إنه من أهل بدر)، ومعلوم أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أفضل الأمة، وهذا معلوم عند المسلمين من أهل السنة، فإنهم أفضل الأمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك وقال: (خيركم القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته، يقولون ما لا يفعلون، ويشهدون قبل أن يستشهدوا، ويظهر فيهم السمن)، وكذلك ذكر الله جل وعلا في كتابه بأنه رضي عنهم ورضوا عنه في آيات كثيرة، والله جل وعلا لا يثني على من يعلم أنه يكفر وأنه سيرتد؛ لأنه جل وعلا علام الغيوب.

والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا شهد لإنسان بعينه وقال: إنه من أهل الجنة.

أو إنه يحبه الله ورسوله فكل الذين يسمعون يودون أن يكونوا مثل هذا؛ لأن هذه شهادة معينة، وإلا فالله يخبرنا أنه يحب المتقين وكذلك رسوله، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، وهم كلهم بهذه الصفة، وإذا أذنب أحدهم تاب، وهم متطهرون من الشرك ومن الأدناس، وهم كذلك متقون ومحسنون، فلا شك أن الله يحبهم، ولكنهم كانوا إذا جاءت شهادة لمعين بعينه فكل واحد منهم يحب أن يكون كذلك؛ لأن شأن المؤمن ليس كشأن المنافق، وإن أحسن وإن أكثر من العمل فهو على وجل، ويخاف ألا يقبل عمله، ويخاف أن تأتي مؤثرات، فإذا جاءت الشهادة له بعينه اطمأن وأحب ذلك، هذا هو السبب في كونهم كلهم رغبوا في أن تدفع إليهم الراية، ورغبة كل واحد منهم في أن تدفع إليه الراية ليست حباً في الإمارة، كما قال عمر: (ما أحببت الإمارة إلا يومئذ)، وذلك لأجل قوله صلى الله عليه وسلم: (يحبه الله ورسوله)، لأجل هذا فقط حتى يتحلى بذلك، ومثل هذا الحديث الذي تقدم، والذي فيه أنه لما ذكر الذين يدخلون الجنة بغير حساب قام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم فقال: (اللهم اجعله منهم)، ثم قام رجل آخر وقال: ادع الله أن يجعلني منهم الحديث.

إذاً فمعنى هذا أن كل واحداً يحب هذا الفضل، وليس معنى ذلك أن هذا من خصائص علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل المؤمن المتقي التواب الصادق هو ممن يحبه الله ورسوله، وكذلك المقاتل في سبيل الله الصابر المقبل المحتسب يحبه الله ورسوله.