للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العمل بالأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر]

إذا آمن الإنسان بالقدر فلا ينافي أنه يعمل، بل أُمر الإنسان بالعمل فقيل له: افعل الأسباب.

كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، فالتوكل في الواقع هو فعل السبب، ثم الاعتماد على الله جل وعلا في حصول المقصود المطلوب.

وحقيقة التوكل أن تفعل السبب ثم تعتمد بعد فعلك السبب في حصول مطلوبك على الله جل وعلا، فلا يعتمد الإنسان على علمه، ولا على قوته، ولا على ماله أو سلطانه أو غير ذلك، بل يعتمد على ربه جل وعلا؛ فإن الله جل وعلا قد يجعل السبب غير مؤثر، وقد يجعل للسبب موانع كثيرة إذا شاء، كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم؛ لأن مثل هذا لا يعهد، وكما جعل مريم عليها السلام تلد بلا اتصال ذكر بها، وكذلك الأمور التي هي أدنى من هذا إذا شاء جل وعلا أن يمنع السبب منعه، فلابد من الاعتماد على الله؛ لأن كل شيء بيده.

إذاً لابد من فعل السبب، وليس الجلوس في البيت -مثلاً- وتعطيل الأسباب من التوكل في شيء، بل هذا عجز يلام الإنسان عليه، وهذا أمر العقلاء لا يقبلونه، فهل يمكن للإنسان أن يقول: إذا كان قد قدر لي ولد فسوف يحصل بلا زواج؟! لو قال الإنسان هذا لقيل: إنك مجنون فلابد من فعل الأسباب، لذلك لا يجوز للإنسان أن يجلس في البيت ويقول: إذا قدر لي أكون عالماً فسأكون، ولا داعي للذهاب والتعلم.

لأن في هذا الفعل مخالفة للشرع، ومخالفة للأسباب التي جبل الله جل وعلا الناس عليها، فلا بد من فعل السبب، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فالطير ليست جالسة في أوكارها، بل تغدو لطلب الرزق وتروح، فأخبر أنها تغدوا جياعاً خماصاً ليس في حواصلها شيء، ثم ترجع إلى أوكارها في آخر النهار، تروح بطاناً قد شبعت وهي لا تزرع ولا تعمل ولكن يرزقها الله، فأثبت الغدو والرواح لها، فهكذا العاقل يجب أن يعمل، ولا يكون توكله عجزاً، كما يدعي بعض الذين لا يعرفون الشرع ولا يعرفون سنن الله جل وعلا، فالتوكل هو أن تفعل السبب وتعتمد على ربك جل وعلا في حصول المطلوب.

وقد أخبر الله جل وعلا أنه ينصر رسله والمؤمنين، ومع ذلك يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:٦٠]، فلابد من الإعداد، ولا نقول: قد أخبرنا صلى الله عليه وسلم فلا داعي لأن نستعد.

بل يجب أن نعد أنفسنا ونتجهز ونطلب السلاح الذي يجب أن يُطلب، كذلك يقول الله تعالى في آية أخرى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:١٠٢] فأمرهم أن يأخذوا أسلحتهم في الصلاة، وأن يقسموا أنفسهم، فقسم يصلي وقسم يحرس ينظر العدو، ومع ذلك حذرهم.